
بقلم: احسن خلاص
اشتكينا منذ أيام فقط من التيه الذي ظهر به البلد وهو يواجه وباء كورونا والعالم الليبرالي قد آثر التضحية بمنظومة اقتصادية واجتماعية ضمن مقدساته ليفعّل أشكالا جديدة من الانضباط الاجتماعي والتضامن مقدما حفظ النفس البشرية على جميع الأولويات والمقدسات.
وكان المفكر الجزائري مالك بن نبي قد كتب في ستينيات القرن الماضي كتابا أسماه “بين الرشاد والتيه” يطرح فيه إشكالات ذات صلة بالسياق التاريخي الذي عاش فيه وها هو اليوم بهذا العنوان يلهمنا للنظر إلى الوضع الذي نعيشه اليوم. وبما أن الرشاد يعتبر غاية منشودة لكل فرد أو مجتمع فإن التيه وضعية حتمية لغياب الرشاد.
لقد أظهر تعامل الجزائريين كمجتمع وسلطة ودولة مع وباء كورونا كيف يمكن أن تطرح معادلات كانت تحسب في الماضي من قبيل الترف الفكري وكيف يمكن أن توضع على المحك تجربتنا التاريخية والاجتماعية المشتركة وكيف نختبر مدى قدرتنا على تحويل الخطابات المثالية والرنانة إلى سلوكات فعالة ومؤدية وفق أهداف جماعية، وبعبارة أخرى كيف نستطيع أن نخرج من حالة التيه إلى حالة الرشاد.
وبالرغم من أن التهويل الإعلامي الذي صاحب انتشار كورونا أنشأ حالة الارتباك المجتمعي عالميا وأثر أيما تأثير على سير العلاقات الاجتماعية وأحدث هزة شديدة في العلاقات الدولية وأجل إلى حين سير الحياة العادية إلا أنه جسد على أرض الواقع المثل الشعبي المعروف عندنا “خلطها تصفى”. إذ لا شك أن الظرف الصعب الذي يمر به العالم سيترك وراءه عواقب وخيمة وآثار سلبية لكن بالمقابل لا يجب أن نغفل عن آثاره الإيجابية وعلى رأسها إعادة النظر في البناء الاجتماعي ومنظومة القيم والعلاقات الوظيفية على حد تعبير علماء الاجتماع الذين اشتغلوا حول التغييرات التي تحدثها الهزات التاريخية والاجتماعية الطارئة على البناء الاجتماعية والاقتصادية في اتجاه إحداث طفرات تختصر ما لم يكن لينجز إلا بعد عقود من الزمن.
لقد أعادت الحرب العالمية الثانية النظر في منظومة العلاقات الدولية تماما كما غيرت الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1929 الموازين وقلبت رأسا على عقب القيم الاقتصادية العالمية، والشيء ذاته يمكن أن ينطبق على حرب التحرير في الجزائر التي كان ما آثارها المحمودة أنها أنشأت بعد الاستقلال مباشرة ذلك الإنسان الجزائري الذي استعاد الثقة في قدرته على الانتصار وإمكانية القيام بعمل جماعي في ظل التضامن والانضباط لتحقيق المزيد من الانتصارات على التخلف والجهل والبؤس، ولن نجد دليلا أفضل من الهبة التضامنية لإنشاء صندوق التضامن التي دفعت نساء جزائريات للتبرع بأغلى ما يملكن من مجوهرات دعما لمجهود البناء الوطني المنشود.
قد نحسب ما يقع لنا أو حولنا شرا لنا بل هو خير إذا ما عرفنا كيف نجعل منه فرصة لنسرع الخطى في مسار الخروج من مرحلة التيه إلى مرحلة الرشاد. فقد انطلق الشعب منذ أكثر من عام في مسار تقويم وطني شامل يمس المنظومة السياسية كما يمس طبيعة العلاقات الاجتماعية من أجل الخروج من حالة “الأنومي” الدوركايمية وحالة الزيف الذي كانت عليه الجماعات والمؤسسات على جميع المستويات إلى حالة مجتمع جديد أو بالأحرى، كما يحلو ذكره لدى الجيل القديم، العودة إلى المجتمع الجزائري الأصيل.
من المهم أن نصغي، هنا أو هناك، لتدخلات المحللين والخبراء حول أصل الوباء وصانعيه والمستفيدين منه والتحولات العالمية المنتظرة منه وتضارب المعلومات حول عدد ضحاياه لكن الأهم أن نعرف كيف نواجهه ونحمي أنفسنا منه، ولعل الأهم من كل هذا على الإطلاق أن نعرف ما هي التحولات الاجتماعية التي ستخلفها هذه الظاهرة بعد رحيلها، فما يبدو جليا أن هذا الوباء ليس ككل الأوبئة إذ لم يحصل وأن أحدث حالة استنفار مثل هذه التي يحدثها الآن.
لقد أظهرت الدعوات إلى تعليق مسيرات الحراك الشعبي والتدابير الراديكالية والصارمة التي اتخذتها السلطة، وهي تدابير كانت تلام على أنها تأخرت في اتخاذها، والدعوات إلى التضامن والتطوع للمشاركة فيه مثل تلك التي دشنها رجل الأعمال الجزائري كريم رزقي المعروف على ساحة الإغاثة جزائريا ودوليا، ثمرات الوعي الوطني الذي أعاده الحراك الشعبي إلى الساحة في الوقت الذي يجري التفكير اليوم ضمن فعاليات المجتمع المدني في إرجاء الهبة الشعبية لتغيير النظام السياسي القائم إلى حين وتحويلها إلى هبة تضامنية لمغالبة الوباء وقطع الطريق أمام تفشيه وانتشار السلوكات السلبية لاسيما تلك الصادرة عن التجار المضاربين الذين يغتنمون من أي وضع تزداد في الحاجة.
هذه إذن تجربة جزائرية جديدة تضاف إلى تجارب سابقة في مسار البناء الوطني وهي من الأهمية بمكان إذ أنها، من جهة، تجعل عاملي الانضباط الاجتماعي والتضامن الوطني يجتمعان لصقل طبعة جديدة منقحة من العيش المشترك والوحدة الوطنية. فإذا كان الدين واللغة والثقافة المشتركة قد حققوا بنسبة كبيرة هذه الوحدة فإن حفظ النفس والحفاظ على صحتها لا يختلف فيه إثنان فلا معنى للاختلاف إذا لم يكن في موقعه ولا مغزى من الشدائد إذا لم توحد الصفوف وتؤجل الاختلافات والخلافات.