
بقلم: أحمد قصوري
لعل كثيرين عرفوا الكويت كما عرفتُه عن طريق مجلة “العربي”. لقد كانت هذه المجلة لوحدها، هي السفير، والممثل الخارجي، الأكثر فاعلية، في التعريف بهذا البلد، وبناء سمعته في الخارج. لقد تغيرت الأمور كثيرا طبعا، ولا أعتقد أن جيل التسعينيات ومن تلاه يعرفون مجلة “العربي”، إلا نادرا جدا. لقد كان للثقافة على كل حال مقامها الكبير في تلك الأيام، وكان الكتاب، والصحافة الورقية، هما وعاؤها المفضل. حتى أن قطر دخلت على الخط آنذاك، وأنشأت مجلة مماثلة وهي “الدوحة” سنة 1976 التي راحت هي الأخرى تكسب سمعة ورواجا، وجذبت إليها أسماء معروفة في ميدان الفكر والإبداع، لولا أن توقفت بعد عشر سنوات من الصدور، ولا ندري ما هو السبب. وبقيت “العربي”. كانت تصل إلى الجزائر بانتظام وبسعر بسيط جدا. هذه المجلة هي التي عرفتنا بالمثقف الكبير، عبد العزيز حسين رائد النهضة التعليمية وراعي الثقافة والفنون في الكويت، وكان يرأس تلك المؤسسة الرائعة التي تعد نموذجا للعمل الجاد، والالتزام بالرسالة، والمثابرة في خدمة الثقافة والوطن، وهي : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وأنا أذكر أنني عندما اقتنيت رواية “النيل يجري شمالا” في منتصف الثمانينيات، وكانت جزءا أولا من ثلاثية مشهورة للروائي الكبير اسماعيل فهد اسماعيل، اعتقدت أنه كاتب مصري، ثم اكتشفنا أنه كويتي، وأنه مؤسس الرواية الكويتية، ومرافق، وراع، للمبدعين الشباب في بلاده. ثم تعرفنا على مبدعين آخرين لهم وزنهم على الساحة الثقافية العربية أيضا، مثل القاصة الرائعة ليلى العثمان، والشاعرة سعاد الصباح وغيرهم..
ولعل تلك المجلة، والأسماء التي ذكرنا، ومن مثلهم، هم الذين أقنعونا بأن هناك استثناءات في تلك الصورة المكرّسة عن إنسان الخليج صاحب العقال الذي هبطت عليه الثروة فجأة، وراح ينفق بلا حساب، على الاستهلاك والاقتناء، والجري وراء المتعة، والملاهي الليلية ودور القمار في المدن الأروبية الكبرى. وهي صورة حقيقية طبعا، لكنها ليست صورة تعمم على جميع الناس.
حسنا، وما علاقة بطلة الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد بكل هذا ؟
في سنة 1975، كنت تلميذا في ثانوية عبد الرحمن ميرة بالبويرة. وكنت ضمن الفوج الذي سيواجه فوجا آخرا في ثانوية أخرى لا أتذكرها، ضمن برنامج منافسات “بين الثانويات” عبر أمواج الإذاعة. وكنا نتدرب مع الأساتذة قبل يوم المواجهة. وسأل الجرجاوي أستاذ التاريخ:
ـ من هي بطلة الثورة الجزائرية التي أنتج المصريون عنها فيلما سينمائيا مشهورا، ومن هو مخرج الفيلم؟
ولم نحر جوابا. كانت ثقافتنا مدرسية محضة، وكان التلفزيون قليل الانتشار آنذاك في المدن، ومنعدم في الأرياف، والسينما غير متاحة لكل الناس..ثم أن الأستاذ الذي شرح لنا أن الفيلم أخرجه يوسف شاهين سنة 1958، قال أن جميلة بوحيرد بعد أن نالت الجزائر استقلالها دعيت لزيارة بلدان كثيرة منها مصر والكويت، باعتبارها قدوة، ورمزا للكفاح من أجل الحرية.
جميلة بوحيرد في الكويت
وأنا مع الملل، صرت أنبش عن أي شيء في “غوغل” هذه الأيام، وأعثر على مفاجئات أحيانا. نطالع في مذكرات ربيحة الدجاني المقدادي، وهي سيدة فلسطينية، وصلت إلى الكويت سنة 1937، كمدرسة ضمن مجموعة من رجال التربية جاءوا للمساهمة في النهضة التعليمية لهذا البلد. أنها ظلت هناك لمدة نصف قرن، كمدرسة، ثم مسئولة في القطاع..وتحكي في مذكراتها هذه الموسومة: ” رحلتي مع الزمن ” الصادرة سنة 2000 في لبنان، تقول: ” كيف تبدأ التيارات الجديدة في حياتنا؟ إنها فكرة تحتاج إلى من ينقلها إلى أرض الواقع..كانت المدرسات يرتدين العباءة على عكس رغبة بعضهن، وفي عام 1963 تحققت رغباتهن بصورة عفوية، وأعفيت جميع المدرسات من لبس العباءة، فقد كانت دولة الكويت في هذا العام تستعد لاستقبال المناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد)، وكان في برنامج الزيارة أن يقيم الشيخ عبد الجابر الصباح، وزير التربية آنذاك حفل استقبال في مقره على شرف المجاهدة الكبيرة، ويدعو لهذه الحفلة المدرسات، والمدرسين، والمفتشين، وكبار رجال الدولة..” والسيدة ربيحة التي كانت مديرة مدرسة، توجهت إلى الوزير وقالت له : ” إن الزائرة الكبيرة هي إحدى المجاهدات المسلمات، وقد ثارت ضد الاستعمار انتقاما لكرامتها وكرامة وطنها، وهذه المجاهدة التي سوف تزورنا بعد غد لا ترتدي العباءة ولا غطاء الوجه، فكيف يكون موقفنا نحن في الحفلة، ونحن نضع غطاء الوجه ونلبس العباءة؟ في هذه الحالة سوف نحرج ضيفتنا كثيرا، بالإضافة إلى أن هذا المشهد لا يليق بمكانة الزائرة الكريمة..”
واتفقت السيدة ربيحة المقدادي كما تقول، مع وزير التربية على أن تعرض الموضوع بنفسها على أمير البلاد مباشرة، الشيخ عبد الله السالم الصباح. تقول السيدة ربيحة، أنها عندما قابلته شرحت له أن مدرسات كثيرات جئن من مجتمعات عربية ليس فيها هذا النوع من اللباس، كما أن بعضهن كن يهملن مظهرهن ولباسهن، باعتبار أن العباءة تستر ما تحتها، وتضيف: “كان سمو الأمير الراحل، طيب الله ثراه، واسع الصدر، يؤمن بالتطور، وكان يصغي ويفكر طويلا قبل الإجابة، بعد ذلك ابتسم وسألني: لو كان زوجك درويش المقدادي مازال على قيد الحياة هل كان سيوافقك؟ أجبت سموه بأن الأمر الأول والأخير لسموك وليس لدرويش أي رأي إلا بعد استشارة سموك. عندها ابتسم وأومأ برأسه يعني أنه (موافق)..ونقلت الأمر إلى المدرسات شريطة أن يضعن (لفحة) ـ أي إيشارب ـ على رءوسهن ويكون لباسهن محتشما وكذلك تصرفاتهن في هذه الحفلة بالذات. وفي اليوم التالي كتبت الصحف عن زيارة المجاهدة الكبيرة مع صورها والمدرسات دون التعليق على تركهن الحجاب، ولم يعترض الرأي العام على الأمر، واعتبرت كثير من الأوساط والعائلات في الكويت أن هذا العمل يعد إنجازا حضاريا مهما”.
تداعيات
الحاصل أن المتتبع لأخبار الكويت، يعرف أن بعد هذه الواقعة، خاضت المرأة الكويتية نضالا طويلا من أجل نيل حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد برزت ناشطات كثيرات استطعن فرض أنفسهن كممثلات حقيقيات لأكثر من نصف تعداد المجتمع الكويتي، وهذا برغم صعوبات ناجمة عن ذهنية مجتمع ذكوري، يحتمي في الغالب بتقاليد بالية، وتأويلات خاطئة للدين، وفتاوى مفبركة على مقاس الأمزجة والظروف أحيانا. ولعل من حظ المرأة أيضا أن مر على حكم تلك البلاد رجل يحفظ له التاريخ، صورة حاكم حكيم وثاقب البصيرة: الشيخ عبد الله السالم الصباح إنه واضع دستور 1962، الذي منح بعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، كالحق في التعليم والعمل. إنها حقوق قليلة، لكنها كانت البداية الرائدة التي لم تعرفها أغلب بلدان الخليج آنذاك. يقول محمد حسنين هيكل، في كتابه: (حرب الخليج): ” كان من حظ الكويت أن شيخها في ذلك الوقت، هو الشيخ عبد الله السالم الصباح، كان رجلا عاقلا ومدركا لحقائق الداخل الكويتي والمحيط العربي. والشاهد أن هذا الشيخ هو واضع الأساس لما يمكن اعتباره مشروع دولة رفاهية في الكويت يعتمد على عائدات البترول في جهد مكثف لبناء الهيكل الأساسي، ثم يتوجه إلى الخدمات خصوصا في مجالات التعليم والصحة”.
وأعتقد أن هذه الدولة الصغيرة، كانت مرشحة لأدوار أولى في المجال الثقافي خاصة، حيث كانت هناك محاولات جادة لجعل النفط وقودا حضاريا وعقليا يخدم نهضتها. لكن المحيط كله لم يكن مهيئا لذلك، ومجتمعات الخليج كلها كانت غارقة في دوامة التهافت على الاستهلاك، وحياة الترف التي مكنتها ثروة البترول التي راحت تتهاطل على المنطقة ابتداء من 1973 نتيجة الارتفاع المفاجئ لأسعاره. ثم جاءت الفرملة العنيفة التي حدثت في بداية التسعينيات مع غزو صدام حسين لهذا البلد، والحرب التي تلته، فأجهضت الكثير من المشاريع.
لكن المؤكد اليوم، أن وضعية المرأة الكويتية تختلف كثيرا عن وضعية مثيلاتها في أغلب دول الخليج. يكفي أن نعرف أن نسبة النساء العاملات هناك مرتفعة جدا، تزيد على ثلث مجموع القوى العاملة. وقد اقتحمت المرأة الكويتية كل ميادين الشغل تقريبا. فهناك الوزيرات والبرلمانيات، مع تواجدها بكثرة في سلك التعليم، والصحة، والقضاء، والإدارة وفي مؤسسات الجيش والشرطة.. والجدير بالذكر أن المرأة الكويتية خاضت كفاحا طويلا لنيل حقوقها السياسية، حتى حصلت على حق الترشُّح والانتخاب في 2005. وفي 2009، وصلت المرأة لأول مرة إلى مجلس الأمة (البرلمان)، حين فازت أربع نساء في الانتخابات التشريعية. لكن المشكلة اليوم أن المرأة التي أُبعدت على مدى قرون من المشاركة في العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ثم فجأة انفتح الباب أمامها لتنتخب وتترشح كما تريد، ظهرت خائفة، ومترددة، لأسباب عديدة، اجتماعية وثقافية، والحاصل أن نسبة العزوف عن المشاركة في الانتخابات مازالت مرتفعة جدا عند النساء.
بعد استقلال الجزائر، صارت الثورة التحريرية وأبطالها، فخرا لكل الشعوب التي ذاقت مرارة الاستعمار، وكل محبي الحرية في العالم. وجميلة بوحيرد تحولت إلى رمز، إنها أيقونة النضال من أجل الحرية، التي طافت صورتها العالم، مرفقة بعبارتها الشهيرة التي قالتها، وهي فتاة في الثانية والعشرين أمام القضاء الاستعماري سنة 1957: “إنني أحب بلادي، وأدعم كفاحه، وأعرف أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم، ولكنكم لن تمنعوا الجزائر من أن تصبح حرة مستقلة”. وقد حُكم عليها بالإعدام فعلا، لكن بعد حملة تضامن كبيرة في فرنسا وخارجها، ووصول مئات الآلاف من برقيات الاستنكار إلى مكتب محامييها، اضطرت السلطة في فرنسا تحت ضغط الرأي العام المحلي والدولي، أن توافق على تأجيل تنفيذ الحكم، ثم عُدّل إلى السجن مدى الحياة. ولم يطلق سراحها كما هو معروف، إلا بصدور العفو العام وفقا لاتفاقيات إيفيان مع استقلال البلاد في 1962. لقد كتب الكتاب عن جميلة بوحيرد، وصور الفنانون، وأبدع الشعراء كثيرا.. وقد أحصى الباحثون 35 قصيدة لشعراء عرب قيلت في جميلة بوحيرد منهم سليمان العيسى، وصالح خرفي، ونازك الملائكة، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب. وهنا مقطعين، من قصيدتين طويلتين لهذين الأخيرين..
يقول نزار قباني:
الاسم: جميلة بوحيرد
تاريخ..ترويه بلادي..
يحفظه بعدي أولادي..
تاريخ امرأة من وطني..
جلَدَتْ مقصلة الجلاد..
امرأة دوخت الشمسا..
جرحت أبعاد الأبعاد..
ثائرة من جبل أطلس..
يذكرها الليلك والنرجس..
يذكرها زهر الكبّاد
ما اصغر (جان دارك) فرنسا..
في جانب (جان دارك) بلادي.
ويقول بدر شاكر السياب:
يا أختنا يا أم أطفالنا
يا سقف أعمالنا
يا ذروة تعلو لأبطالنا
ما حزّ سوط البغي في ساعديك
إلا في غيبوبة الأنبياء
من أجل طفل ضاحكته السماء
فرحان في أرضه
أحسسته يحبو على راحتيك
يهتف يا جميلة
يا أختي النبيلة
يا أختي القتيلة.