
بقلم: احسن خلاص
الجزء الثاني
ونحن نستعرض المآل الذي انتهى إليه بوتفليقة، في مثل هذه الأيام من العام المنصرم، لا يمكن إلا أن تصيبنا الدهشة ونحن نتساءل: كيف لمسار سياسي وديبلوماسي دام 62 عاما أن تكون من نصيبه هذه النهاية؟ وكيف لرجل كان له الحظ في أن يحتك بقادة من أمثال بن بله وبومدين وكاسترو وعرفات وأولف بالم وتيتو وعبد الناصر وغيرهم أن تكون خاتمته عليه بدل أن تكون له؟ أسئلة لا يمكن البحث عن إجابتها في الأقدار وحدها بل تظل عالقة وتحتاج إلى لحظات من التأمل العميق ليس من قبل المفكرين والباحثين في التاريخ السياسي للجزائر فحسب بل من الرجال والنساء الذين سيقدر لهم أن يقودوا مستقبلا هذا البلد أو غيره.
من عادة القادة السياسيين أن يتشكل رصيدهم التاريخي تصاعديا، فهناك من ينطلق من الصفر وينتهي إلى أرفع درجات الزعامة التاريخية فيبقى محفورا في الذاكرة بعد موته على غرار بعض من ذكرناهم من الزعماء التاريخيين. وقد بلغ هؤلاء تلك الدرجات العلى بعد أن أدركوا طبيعة المقابل الذي كان عليهم أن يدفعوه، ومن أشكال هذا المقابل أن يقتنع من تحت سلطتهم أنهم في خدمتهم وأنهم يعملون بشكل خطي لا اعوجاج فيه على تجسيد المثل والقضايا التي يرسمونها وطنيا ودوليا ويكافحون من أجلها.
لقد احتك بوتفليقة برجال كان لهم وعليهم، غير أنهم كانوا يحملون مثل السلام والعدل والمساواة ضمن رؤى للعالم مرسومة لتسود خلال العهود التي قادوا فيها بلدانهم وجزءا من العالم. وكان الأمل في أن تستفيد الجزائر من هذا الرصيد هو الذي جعل الجزائريين عام 1999 يأمنون ويأملون بل يطمئنون لعودة تلك النماذج من جديد بالرغم مما اعترى عودة بوتفليقة إلى الحكم من عيوب منها أنه كانت تعوزها الروح الديمقراطية بل كانت ضمن صفقة مع جناح من القادة العسكريين أو من يسمى بالحكام الفعليين الذين فرضوه فرضا دون مرشحين آخرين لا يقلون عنه رصيدا تاريخيا. وهو ما جعله يتحول من رجل أمة كما تصوره من ظل يؤمن بالرجل المعجزة إلى رجل مهمة أعدت له مسبقا وهي إنهاء الأزمة الأمنية بما يحفظ النظام من تداعياتها محليا ودوليا. وهي المهمة التي اشتغل عليها بتفان وإتقان ومكنت وثيقتا الوئام المدني في 1999 والسلم والمصالحة الوطنية في 2005 من إتمام الإنجاز وفق المقاييس المرسومة لاسيما وأن ارتفاع مداخيل المحروقات المتزامن مع عودة الهدوء والاستقرار قد ساعد على تنمية طموح الكثير من الدول التي عرضت خدمات شركاتها لإعادة إعمار بلد دمرت منشآته ومؤسساته عشرية دموية أوقفت عجلة النمو ووضعت البلد تحت سلطة المؤسسات المالية الدولية قبل أن يتخلص بوتفليقة من ديون الجزائر المتراكمة لديها.
هكذا تحولت الجزائر إلى فضاء جذاب لشركات فرنسية وتركية وصينية وغيرها، للاستثمار في مجالات المنشآت القاعدية والسكنات والاتصالات وكانت كل دولة تبحث لشركاتها عن نصيب من الاستثمارات المدرة للأرباح من الريع النفطي. وفي الخلفية اتفاقات للتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي واتفاقات شراكة استراتيجية مع روسيا والصين حيث أخرجت البحبوحة النفطية الجزائر من العزلة التي فرضتها عليها سنوات الأزمة السياسية الأمنية وجعلت منها بازارا للسلع والخدمات المستوردة.
ولأن السياسة هي فن الممكن كما يقال فقد ولد وضع كهذا طموحا جديدا في أن المهمة التي كان مقررا أن تنتهي بعد صدور ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في 2005 يمكنها أن تمتد أبعد بكثير مما كان يتصوره حتى الذين نصبوه على رأس البلد من أول يوم، فالمهمة السلمية الانتقالية التي كلف بها تحولت فجأة إلى “برنامج رئيس الجمهورية” بالرغم مما أعقب الاستفتاء على الميثاق من دخول بوتفليقة في وعكة صحية أولى، عالج منها بمستشفى فال دوغراس العسكري الفرنسي، غير أنها أورثته وضعا صحيا هشا أنقص من قدراته الجسدية بشكل لا يمكن إخفاؤه إلى درجة أن هذا الوضع الجديد صار محل اهتمام العديد من الدول التي أقام معها بوتفليقة شراكات مرهونة باستمراره في السلطة.
كانت تلك لحظة فارقة ومفصلية مكنت بوتفليقة من التحرر من مقام رجل المهام إلى رجل أقنع جزءا غير يسير من أركان النظام القائم بملحقاته بضرورة استمراره في سدة الحكم لمواصلة تجسيد “برنامجه الطموح” الذي ارتبطت به مصالح داخلية وخارجية جديدة تشكلت حول قادة عسكريين جددوا له الولاء وبارونات مال وقادة أحزاب ومنظمات وشيوخ زوايا، وهي أطراف رأت أن أفضل سبيل للاستفادة من الامتيازات التي يوفرها الوضع المالي الجديد دعم “فخامة الرئيس لولايات رئاسية جديدة” بدل المغامرة بمطلب التغيير داخل النظام، حتى أن بعضا ممن ارتبط مصيره ببقائه في الحكم تمنى أن يخلد فيه لو لم يكن الموت حقا على الجميع، مع أن هناك في قلب النظام أو في ضفافه أو لدى الشعب، من كان ينتظر الساعة التي يفارق فيها الحياة لاسيما وأن حالته الصحية لم تكن تبشر بعودة بوتفليقة الذي عهده الجزائريون. لقد وضع الجميع في حالة ترقب وجعل مصير البلد مرهونا بتطور وضعه الصحي في ظل غياب تصورات سياسية جديدة خارج لوحة التحكم التي هيأها بوتفليقة ومن حوله من العصب الجديدة الملتفة حول الريع، وهم الذين نجحوا في نوفمبر 2008 في إزالة العائق الدستوري الذي يحدد عدد ولايات الرئيس في اثنتين بتعديل غير دستوري للدستور فتح بموجبه العهدات الرئاسية ليمكن لبوتفليقة من ولاية ثالثة أمام صمت غريب ومريب كان قد التزمه بعض من عارض من بعد ترشحه للعهدتين الرابعة والخامسة.
يتبع