أ.د. نورالدين حاروش
جامعة الجزائر3
…بعد انتهاء مسلسل الإطاحة برئيس البرلمان السعيد بوحجة، وبالطريقة التي أرادها مهندسو العملية، والتي اجمع الكل على أنها غير دستورية، نبارك للبرلمان الجزائري الوظيفة الجديدة التي اكتسبها عنوة وهي الإطاحة برئيس البرلمان وعزله كما يريد وبالشكل الذي يريد وفي الوقت الذي يريد، وهذه الوظيفة في الحقيقة ليست جديدة على البرلمان الجزائري وإنما ترسخت الآن وأصبحت من أهم وظائفه إن لم نقل الأهم على الإطلاق، وعليه سنقوم بإطلالة سريعة لمعرفة الطريقة ـ اللغز ـ التي تم عزل أو الدفع برئيس البرلمان للاستقالة مكرها منذ المجلس التأسيسي إلى البرلمان الحالي…
أنتخب أول برلمان للجزائر المستقلة (المجلس التأسيسي عدد نوابه 196) يوم 20 سبتمبر 1962، وهذا الانتخاب هو عبارة عن استفتاء على القائمة التي فرضها المكتب السياسي، وفي 25 سبتمبر من نفس السنة عقد المجلس التأسيسي أول جلسة له ليصبح بذلك الهيئة الرسمية الوحيدة الممثلة للشرعية وذلك بعد حل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وكذا الهيئة التنفيذية الذي احتفظ رئيسها عبد الرحمان فارس بمقعد له في المجلس الجديد بينما أقصي بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة منه؟ كما تم انتخاب فرحات عباس، أول رئيس للحكومة المؤقتة، رئيسا لهذا المجلس بـ 155 صوتا مقابل 35 ورقة بيضاء، حيث طلب فرحات عباس بممارسة المجلس لصلاحياته كاملة، ومن بين الصلاحيات، المبادرة بإعداد وتحضير أول دستور للجزائر المستقلة، ونتيجة عدم الانسجام والتوافق بين رئيس المجلس فرحات عباس ورئيس الجمهورية أحمد بن بلة حول التوجهات السياسية لا سيما شكل وطبيعة النظام السياسي الذي سيحدده الدستور القادم، فقد لجأ الرئيس أحمد بن بلة إلى تعين مجلس مواز أسندت له مهمة إعداد وثيقة الدستور مهمشا بذلك ومبعدا الهيئة الرسمية المنتخبة من وظيفتها الأساسية ومن صلاحياتها المخولة لها، وقد تمت مناقشة هذه الوثيقة في قاعة سينما الماجستيك (قاعة سينما إفريقيا حاليا بالجزائر العاصمة) وذلك في غياب أعضاء المجلس التأسيسي.
وأمام إصرار الرئيس أحمد بن بلة وضع المجلس التأسيسي أمام الأمر الواقع بفرض دستوره وفق نظريته المكرسة أساسا والمتمثلة في إتباع نظام سياسي قائم على الأحادية الحزبية، فقد قرر فرحات عباس الاستقالة من رئاسة المجلس وذلك بتاريخ 13 أوت 1963 م، رافضا بذلك الطريقة والأسلوب الذي اعتمدته حكومة الرئيس أحمد بن بلة في إعداد وثيقة الدستور، موضحا في رسالة الاستقالة أن المجلس مهان مفرغ من مضمونه وصلاحياته مؤكدا أنه لا يمكن الخروج من النظام الاستعماري للسقوط في ديكتاتورية جديدة وتحمل نزوات ومزاج شخص ردئ في تصرفاته وأحكامه غير واع لما يقدم عليه.
وبمناسبة انتخاب أول مجلس شعبي وطني في 5 مارس 1977 ، أنتخب رابح بيطاط كأول رئيس لهذا المجلس ويعاد انتخابه على رأس ذات المجلس سنوات 1982 و1987 و1989 ليقدم استقالته يوم 3 أكتوبر 1990 لعدم اتفاقه مع السياسة المنتهجة من طرف الرئيس الشاذلي بن جديد احتجاجا على طريقة تطبيق الإصلاحات ومخاطرها المحتملة على التماسك الاجتماعي. حيث أفضت الحملة الإصلاحية التي قادها رئيس الحكومة مولود حمروش إلى خلافات حادة بين الإصلاحيين والمحافظين في المجلس الشعبي الوطني ابتداء من سنة 1990 م، وكان بيطاط على رأس المجلس آنذاك حيث عارض التوجهات الانفتاحية الاقتصادية والمالية التي بادر بها مولود حمروش الذي كان في عجالة من أمره لتمرير إصلاحاته العميقة وتبادل الرجلان التهم والبيانات المتضاربة، بيد أن القوة والسرعة والجرأة التي انطلق بها مولود حمروش بمباركة وتزكية رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد حملت المرحوم بيطاط على تقديم استقالته موجها رسالة استنكار ورفض للسياسة الحكومية تذكرنا برسالة الاستقالة التي قدمها فرحات عباس من المجلس الوطني التأسيسي سنة 1963 م كما أشرنا … وهي على كل سلوكات حضارية لا يقدم عليها إلا الكبار …
عموما كان المجلس الشعبي الوطني في ظل نظام الحزب الواحد يمارس وظيفة تشريعية ولا يمارس السلطة التشريعية، وذلك لغياب الفصل بين السلطات وهيمنة الحزب الواحد على هذه السلطات… هذا المجلس في حقيقة الأمر هو عبارة عن آلة لإنتاج القوانين التي تعرض عليه من قبل الحكومة التي هي حكومة نفس المجلس الأحادي أما النواب فكانوا عبارة عن «موظفين» لدى الدولة يؤدون مهام إنتاج القوانين أو بالأحرى المصادقة على ما يعرض عليهم من الحكومة، حيث أنه ليس للمجلس الشعبي الوطني أي تأثير مباشر أو غير مباشر على الحياة العمومية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها… وللأمانة فالأمر لم يختلف كثيرا في ظل التعددية الحزبية والبرلمان التعددي…
بعد تعيين الرئيس المغتال محمد بوضياف إثر استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في جانفي 1992، وكان من المفترض حسب دستور 1989، أن يتولى رئيس المجلس الشعبي الوطني في تلك الفترة عبد العزيز بلخادم رئاسة الدولة حسب ما ينص عليه الدستور، ومثلما كان عليه الأمر بالنسبة لدستور 1976 حيث أصبح المرحوم رابح بيطاط رئيسا للدولة بعد شغور المنصب إثر وفاة الرئيس هواري بومدين في الـ 27 من ديسمبر 1978. لكن هذه المرة حل المجلس الشعبي الوطني، وتم تكوين مجلس أعلى للدولة أصبحت بموجبه الرئاسة جماعية بقيادة محمد بوضياف، وضم المجلس إضافة إلى ذلك كلا من وزير الدفاع الوطني آنذاك الجنرال خالد نزار والعقيد علي كافي والمحامي علي هارون والوزير الأسبق التيجاني هدام. وهكذا يتكرر سيناريو إبعاد رئيس المجلس الشعبي، حيث أبعد الجمل بما حمل، أي تم حل البرلمان بأكمله وبالتالي إقالة رئيسه بطريقة آلية؟؟
بعد إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن نيته للترشح لعهدة ثانية سنة 2004، انشقت مجموعة نواب جبهة التحرير الوطني عن المجموعة البرلمانية للأغلبية وأعلنت ولاءها للرئيس عبد العزيز بوتفليقة ودعمها له للترشح لعهدة ثانية في حين تمسك أغلب نواب الجبهة وعلى رأسهم رئيس المجلس الشعبي الوطني كريم يونس “بالشرعية” وأعلنوا مساندتهم للأمين العام للحزب علي بن فليس، واشتد الصراع في الانتخابات الرئاسية حيث كان كريم يونس من المناوئين للرئيس بوتفليقة. وبناء على هذه المواقف مارس نواب التيار التصحيحي في حزب جبهة التحرير الوطني ضغوطا على يونس لدفعة للاستقالة، غير أنه رفض التنحي وعدم الرضوخ للضغوط مهما كان مصدرها وإنه باق في منصبه الذي انتخب له.
وبالرغم من تنازلاته عن المواقف السابقة تجاه رئيس الجمهورية وتجاه الجناح التصحيحي بقيادة عبد العزيز بلخادم، لكن يبدو أن تلك التنازلات لم تكن كافية بحيث استمرت الضغوطات من داخل الحزب وخارجه لإرغامه على تقديم استقالته من رئاسة البرلمان، وكان قائد التيار التصحيحي في الحزب عبد العزيز بلخادم وقد نبه في كل مرة على أن الذين أساؤوا لرموز الدولة والحزب لا بد أن ينسحبوا من الواجهة، وهي إشارة تعني رئيس المجلس الشعبي الوطني، كما كانت هناك معلومات تفيد بان الرئيس ابلغ كريم يونس بأنه غير مرغوب فيه ووصل الأمر إلى منعه من قيادة الوفد البرلماني الجزائري في مهمات للخارج بعد ما كان يقوم بها رئيس المجلس الشعبي الوطني قبل بروز الخلاف… والأكثر من هذا فإن كريم يونس شعر بتخلي زملاءه بالأمس الذين التفوا معه و الوقوف مع الأمين العام للحزب علي بن فليس من خلال إقصاءه من المشاركة مع التيار التصحيحي لتحضير المؤتمر الجامع للحزب، وفي هذه الأثناء قدم رئيس المجلس الشعبي الوطني كريم يونس استقالته في جلسة علنية مخصصة لأسئلة النواب الشفوية، لتنهي بذلك مسلسلا من الترقب والانتظار بين نواب البرلمان من جهة، وبين نواب جبهة التحرير الوطني الذين طالبوه بالاستقالة بعد الانتخابات الرئاسية التي انتهت بفوز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من جهة ثانية.
الرئيس الذي يرغم على الاستقالة هذه المرة هو رئيس مجلس الأمة الشخصية التاريخية والمجاهد بشير بومعزة، وكما يبدو فإن لغز استقالته تكون أكثر وضوحا عندما تنشر مذكراته كاملة،.. حيث دونها قبل وفاته ولكنه أرجأ نشرها إلى الوقت المناسب حتى لا يذر الملح على الجرح أكثر حسب قوله، لكن هناك بعض الإعلاميين الذين تمكنوا من الاطلاع على هذه المذكرات وخاصة ما يتعلق بالطريقة المهينة التي خرج بها من رئاسة مجلس الأمة وكيف أرغموه من داخل مجلس الأمة وخارجه لتقديم استقالته…حيث وصف بومعزة خروجه من مجلس الأمة بالوحشي، رغم أنه هو الذي قرر الاستقالة، بسبب استهدافه شخصيا، وإهانته، وتأليب أعضاء مجلس الأمة ضده وتهديده بالسلاح الناري في قاعة المجلس، مما سبب له صدمه عنيفة وكان وراء إصابته بالسكري حسبه…
يقول بومعزة إن عددا من أعضاء مجلس الأمة ينتمون للأفالان والأرندي وآخرين من الثلث الرئاسي ”شنوا عليّ هجوما عنيفا، وشتموني وهددوني بالسلاح الناري، وطلبوا مني الذهاب إلى بيتي، في خرق واضح للدستور، معللا ذلك في تحقيق هدف وحيد وهو إرضاء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي قرر تنحيتي وتعويضي بمحمد الشريف مساعدية. عبارات الشتم التي وجهت له كانت نفسها التي كان قد تلقاها بن يوسف بن خدة أثناء مؤتمر طرابلس سنة 1962 وهو رئيسا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية؟
وهكذا قدم بشير بومعزة استقالته في شهر فيفري 2001، ويتوفى عن عمر ناهز 82 سنة، حيث قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تنظيم جنازة رسمية له، وطلب من رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح استقبال الجثمان في مقر مجلس الأمة للترحم عليه؟؟
سعيد بوحجة رئيس البرلمان قبل استقالته مجبرا، عين على رئس الهيئة التشريعية على إثر الانتخابات التشريعية سنة 2017، عن حزب جبهة التحرير الوطني الحاصل على الأغلبية البرلمانية، يتعرض للضغط ومطالبته بالاستقالة حيث وقع أكثر من 300 نائب وثيقة تتضمن أغلب نواب حزب جبهة التحرير الوطني الذي ينتمي إليه سعيد بوحجة تريد الإطاحة به وتطالب بذهابه. وقد اختلفت الآراء حول حقيقة مطالب النواب هل هي عفوية ومن تلقاء أنفسهم أم أنها بإيعاز من جهات أخرى؟ علما أن القانون المسير للمجلس لا ينص إطلاقا على إمكانية سحب الثقة من رئيس المجلس، وكل ما ينص عليه هو الاستقالة وحالة التنافي (ازدواج المهام) والوفاة، لكن الواضح أن قيادة جبهة التحرير الوطني وعلى رأسها الأمين العام آنذاك جمال ولد عباس قررت فعلا سحب الغطاء السياسي من بوحجة لأسباب عدة .
إن البحث في أسباب دفع الرجل للاستقالة تتلخص في بعض المواقف والقرارات التي أقدم عليها بوحجة منها سوء العلاقة بينه وبين نواب المجلس عقب عودته من رحلة استشفاء في العاصمة الفرنسية باريس(استفادته من تحويل أموال بالعملة الصعبة خارج الأطر القانونية ؟؟)، وكذا قراره إنهاء مهام الأمين العام للمجلس، وهو القرار الذي عارضه نواب الأفلان بشدة وبالرغم من تمسك بوحجة بقراره إلا أنه فرض عليه لإعادته إلى منصبه لكن بوحجة يستقيل؟؟ وهناك من يرى بان السبب الرئيسي للمطالبة باستقالته هو رفضه الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
وقد قرر رؤساء المجموعات البرلمانية تجميد جميع أنشطة كل هياكل المجلس الشعبي الوطني، إلى غاية قبول رئيسه السعيد بوحجة التنحي من منصبه، في المقابل، أكد رئيس المجلس الشعبي الوطني، أنه يرفض التنحي عن منصبه “لأن مطلب معارضيه غير شرعي”. وقال بوحجة: “لن أستقيل إلا إذا كانت لدي قناعة بارتكاب أخطاء، وهذا أمر يتعلق بإرادتي، أما الإقالة فيجب أن يكون مصدرها الجهات الفوقية”، في إشارة إلى رئاسة الجمهورية .
لكن في الأخير يجبر على تقديم الاستقالة لأنه أصبح وحيدا ودون أية مساندة لا حزبية ولا شعبية ولا من النواب الآخرين في المجلس وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات حول تعيين أو انتخاب رئيس البرلمان بطريقة قانونية وإبعاده بطريقة غير قانونية وربما هذا هو اللغز؟؟