
د. عبد الحفيظ محمودي
اسحق عظيموف روسي المولد، كيميائي حيوي في تخصصه، وبغض النظر عن ديانته وميوله التي لا تروقنا بتاتا، إلا أن له مقولة ملهمة للبعض: “عليك اتخاذ العديد من الإجراءات ،والأفعال التي من شأنها أن تطيل الحضارة، تقليل احتمالية حدوث عصر مظلم آخر أو تقليل مدته إذا وجد.” والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، المعنى عميق يدعو للتأمل عن حجم ما يفكرون فيه وبطء ما نفكر فيه.
لهذا الهدف أعلن مدير شركتي “تسلا” وسبايس إكس” الملياردير إيلون ماسك عن عرضه 100 مليون دولار على المخترعين، مقابل إيجاد طريقة لإزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي والمحيط. وقال ماسك: “لا أعتقد أننا محكومون في الوقت الراهن ولكن إذا استمرينا هكذا ونحن مرتاحون، فهناك خطر حدوث تغير مناخي”. العرض عندما يسمعه البسطاء أمثالنا ينجذبون للخبر بعفوية شديدة، وإذا سمعه الأغنياء منا يشعرون باشمئزاز قاتل، لأنه يضرب عواطفهم وإنسانيتهم التي يضعونها في جيوبهم وداخل خزائنهم، نحن نتعلم لكي نقرأ فقط، بالكاد نقضي على الأمية التي تساكننا داخل أعماقنا وتحت ثيابنا.
من المفيد أن نروي هذه القصة : “ذهب ماسك إلى موسكو لشراء صاروخ باليستي عابر للقارات والتي من خلالها يستطيع إرسال الحمولات المتوقعة إلى الفضاء ، وعرضت الشركة الصاروخ الواحد مقابل 8 مليون دولار أمريكي،السعر الذي رآه ماسك مبالغا فيه ،وانسحب بعد هذا العرض من الاجتماعات ليعود إلى بلده .”ونحن لا زلنا نشتكي من تضخيم الفواتير ونتفنن في إرهاق الخزينة بمزيد من الأرقام التي تسافر عبر الحاويات بلا رجعة
في طريق العودة من موسكو؛ فكر ماسك في إمكانية بناء شركة تستطيع بناء صواريخ بأسعار غير مكلفة وأدرك أن المواد الخام التي تستخدم في بناء الصاروخ ما هي إلا 3% فقط من سعر الصاروخ.
والنسبة المتبقية 97 % هي كلفة العلم والتقانة، إذا تقدم الأمم لا ترهنه قلة الموارد، لا يؤلمك أنك لا تملك أي شيء، فأسهل الممتلكات حماية من السرقة والضياع أن تحرس شيئا غير موجود وهي في نفس الوقت قمة درجات التأهب واليقظة.
ما لفت انتباهي سرعة الاستجابة للازمات بحثا عن الحلول وإصرارا على الوصول، لا تهمنا الأرقام الفلكية التي يحوزها ولا يهمنا ممن يستمد أفكار إلحاده، السؤال الأهم: ما علاقة الثروة بالعلم؟ ويفجعنا الجواب إذا تعلق الأمر بنا: لا نعلم.
ونحن ما زلنا نختلف هل نخرج زكاة الفطر عينا، صاعا من الشعير أم نعطيها نقدا وبينما هم يزدادون غنى نحن نزداد فقرا في أفكارنا وأفعالنا وأحوالنا، أدركت أنهم يزدادون فهما لسورة العلق ” اقرأ باسم ربك الذي خلق” ونحن نزداد بعدا عنها وسوء عما مضى أنه يحلم بإنشاء مستعمرات بشرية على سطح المريخ ونحن لا زلنا نفتقد النظام على الأرض وتبدع الوزارة ووزيرها في أحداث ثورة رقمية في تسجيل عقود التعمير ورخص البناء والهدم.
ومن العجب أن مروحية انجنيوتي تستجيب لأوامر البشر من مسافة 225 مليون كلم وعندما حاولت أنا إرسال هذا المقال للمرة الأولى لم تستجب نقرات الأنترنت إلا بمشقة كبيرة ولكنني أفلحت في المحاولة الثانية شاكرا رب النعم على التوفيق والفلاح.
إن تكلفة جهلنا أصبحت باهظة كلما تطورت حصائل العلم،المتفائلون فقط من يعتقدون أن تقليل الهوة بيننا سيكون متاحا ضمن المنظور القريب،لا يزال العالم يواجه أخطارا كبيرة رغم عدته وتعداده ،والصدمات العنيفة لا تنفك تأتي الواحدة تلو الأخرى وأدركنا أخيرا أن تحرير المبادرات، وروح الابتكار تقلص الهوة وتبعدنا عن خطر الانقراض، والله لولا تشريف الإسلام لنا كأحسن أمة أخرجت للناس لكنا كبعض الكائنات ليس لوجودها قيمة سوى تحقيق التوازن البيئي.
من كثرة ماأصبحنا نخشاه أن يؤدي الركود الذهني إلى عدوى واسعة النطاق تصيبنا بالشلل الفكري وتلح الضرورة حينئذ على كيفية الوقاية او التخفيف من حدتها، أما بالتعود على تكرار المحاولات ولو فشلت أو القدرة على الاندماج والاحتكاك بالمنظومة العلمية العالمية، الأولويات تنحصر إذا في جرد الخيارات الصحيحة لا غير.
ستمكننا التجربة من القيام بدور أكثر وضوحا وتوفيرا لمناخ الحوكمة السليمة، هنا تكمن الأهداف ويتعلق الأمر بنموذج السياقات الأكثر جدوى. وليس بالضرورة أن نستنسخ تجاربهم وأسمائهم وإن كان هذا مستبعدا ومستحيلا ونستأنس على الأقل بما يشابه عزيمتهم في قهر الجميع وجعلهم تحت السيطرة إلى حد بعيد.
تخلصنا من قابلية التعايش مع الجهل، أصبح ملحا ومكلفا والانتظار غير محتمل، نقضي معظم حياتنا نصطف على الهوامش في انتظار الأوامر من سادة العالم دون أن يرف لنا جفن. أما الانفجار وأما الخضوع والدوران حول أنفسنا كأصنام لا تنطق ولا تسمع. لا نريد أن يلعب الحظ دورا حاسما في تخلصنا من الخنوع دون إصرار على ترك الجاهلية الأولى التي ترسخ الجهل وتحارب الحق.
من خلال تطبيق المفاهيم العلمية الصحيحة نقضي على عدوى انتقال الأزمات وفوضى اقتصاديات الريع وتصميم الحلول المالية المنتجة وليست الأرقام المنتفخة التي سرعان ما تتبخر عندما تتضارب المصالح، لسنا بحاجة الى إعادة بناء الابجدية لنحسن التواصل مع بعضنا او ان نحقق التفاعل الممكن بيننا ونحقق التوازن بين الدخل الحقيقي وبين البرامج المسطرة. ليس بالضرورة أبدا أن يكون عظيموف أو ماسك قدوتنا لو فهمنا جيدا أن سورة العلق أنزلت على رسولنا الكريم لنكون أول من يفهمها ويحسن تطبيقها وأدركنا اليوم أن هدف النزول فريضة غائبة نسأل ذات يوم عن التقصير بحقها.
لاسترداد العافية نحن أحوج ما نكون لإحداث نقلة صاخبة في طرق التفكير وتغيير البوصلة ، إعادة توزيع الدخل يقضي على الفقر ويحرر المبادرات، ومحاولة توظيف جزء من أموال الأغنياء لصالح تحسين منظومة القراءة والأبحاث ربما يرجح الكفة ذات يوم ويذكر التاريخ العديد من مكتنزي الأموال -بجهد وبغير جهد -لصالح شعوب مقهورة لا تحسن العد والحساب.
إن الشعور الزائد بعدم الارتياح يدعونا للتفكير مرة أخرى في أحقية وجودنا ضمن الصف الأول للأمم وان نسترجع المكانة السابقة ونؤمن بان التكليف كان لنا أولا بحسن التعلم والقراءة، إذا حاولنا الاندماج بالسرعة القصوى ضمن المسار العالمي الذي يرسخ استحقاق البقاء للأقوى أو نلقي باللوم على أنفسنا إذا اضطررنا مرة أخرى أن نكون مغيبين متهمين ويقع علينا الحد والقصاص، كان واضحا من زمن بعيد أننا أمة القراءة التي تقدس الجهل وأمة الغنى التي اعتادت على الفقر.
الجزائر في 11/05/2021
د. عبدالحفيظ محمودي