
احسن خلاص
وفي سياق آخر تحدث بوالو عن فشل أوروبا في أن تشكل قوة اقتراح مستقلة في عدة مجالات في الوقت الذي تطورت فكرة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء التي انتهجها الكثير من البلدان الصاعدة. لم تستطع أوروبا فرض نظرة مستقلة حول رسم الحدود في أوروبا الشرقية بالرغم من جهودها في إعداد اتفاق مينسك كما أنها لم تتمكن من ضمان أمنها الطاقوي بحيث وضعتها الحرب بين طرفي كماشة حيث قد تجد نفسها في أي وقت مضطرة للاختيار بين الغاز الروسي والغاز الصخري الأمريكي، بينما لم تقدر كما يجب قدراتها في إنتاج الطاقات المتجددة لمواجهة حاجاتها الطاقوية.
لكن ثمة عوامل أخرى لا تخدم الاتجاه نحو قوة أوروبية متماسكة وموحدة منها الانقسامات بين فرنسا وألمانيا في الوقت الذي يجب عليها البحث عن شركاء آخرين خارج أوروبا ثل الهند و الصين لدعم مصداقيتها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. ونجد وراء هذه الانقسامات الحيطة والحذر السائدان في علاقات فرنسا مع ألمانيا، حيطة وحذر بين قوتين إحداهما صاعدة ومتطلعة بقوة نحو المستقبل وأخرى لا تزال تجتر رصيدها التاريخي الذي روثته من تفاوضها غداة الحرب العالمية الثانية لاسيما عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي التي تعطي تقدما ديبلوماسيا لفرنسا على ألمانيا بالإضافة إلى امتلاكه السلاح النووي الذي لا تمتلكه ألمانيا.
لكن بالمقابل تتقدم ألمانيا على فرنسا بشكل رهيب في إفريقيا حيث تمتلك أكبر عدد من المعاهد الثقافية في القارة السمراء وتستقدم خبراء وجامعيين أفارقة كمستشارين لها بالنسبة لسياسة ألمانيا الإفريقية بينما لم تتمكن فرنسا من تجاوز عقد التفوق وقد ظهرت هذه العقدة في إصرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أن يكون وحيدا عند لقائه بوتين بدل أن يكون مرفوقا بالمستشار الألماني. وقد أظهر الكرملين أن ماكرون طالب بوتين بسحب قوات فاغنر من مالي وهو ما اعتبره الألمان خلطا بين القضايا الأوروبية والقضايا الثنائية.
ويظل الصراع الخفي بين فرنسا وألمانيا عائقا أمام بروز أوروبا كقوة موحدة وقادرة على إحراز استقلالها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وهو الصراع الذي يمتد إلى الأمم المتحدة حيث لا تزال فرنسا تعيق مساعي ألمانيا تجاه إصلاح الأمم المتحدة متوجسة من اكتساب ألمانيا العضوية الدائمة في مجلس الأمن كما يقف عقبة أمام إيجاد هوامش للتحالف مع بلدان صاعدة وريثة حركة عدم الانحياز من أجل تحقيق السلام العالمي. ويرى بوالو أن فرنسا بنشرها لقوات التدخل في إفريقيا لا تختلف كثيرا عن روسيا التي تستنزف مداخيلها المالية من أجل عمليات عسكرية لا تسمن ولا تغني من جوع وتعيق مسارها لاستعادة مكانتها كقوة اقتصادية.
ومن جانب آخر ليست الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من يقف عائقا أمام تشكيل قوة أوروبية عسكرية واقتصادية مستقلة بالرغم من أن ناتجها الخام مجتمعة يضعها في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة متقدمة على الصين. وبالرغم من ذلك فضلت أن تبقى عالة على الناتو إلى درجة أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اعتبر أن أوروبا صارت تثقل كاهل الولايات المتحدة الأمريكية حيث كانت علاقة أمريكا بأوروبا الأسوأ على الإطلاق في عهده.
ووصف بوالو الإيديولوجية الإمبريالية لبعض الدول بأنها سرطان عالمي وهذا التصور الإمبريالي ليس أمريكيا أو فرنسيا أو روسيا فقط إذ حتى الصين تمتلك هذا التصور بأدوات مختلفة. وهذا التصور الإمبريالي هو الذي دفع ماكرون إلى المطالبة بسحب القوات الروسية من مالي. لكن الأفارقة اليوم لا يرون أن من مصلحتهم استبدال إمبراطور بآخر بل بناء علاقات متشعبة ومتنوعة مع جميع القوى.
ومن هناك يرى بوالو أن التدخل العسكري الروسي يعتبر خطأ من منطلق أنه سيعزل روسيا اقتصاديا ليس بآثار العقوبات الاقتصادية التي ستحول دون قدرته على بناء صناعة قوية فحسب بل بضرورة التكفل بالأقاليم الأوكرانية الجديدة التي تريد ضمها إلى وصايتها والتي تضاف إلى الأقاليم السابقة في جورجيا والشيشان فروسيا تمتلك ريوعا طبيعية هامة لكنها ليست قوة اقتصادية قادرة على تحمل أعباء الحرب وما بعد الحرب. وحتى محاولاتها للظفر بمواقع نفوذ في إفريقيا قد تصطدم بالصورة التي تصنعها الدعاية الإعلامية الغربية عنها بأنها قوة معتدية ومغتصبة لسيادة الدول والتي تذهب إلى حد مقارنة بوتين بهتلر.