أقلام

ماذا بعد؟ مائة يوم من الحرب على غزة


من عادة المحللين السياسيين ومجمل الصحفيين المختصين بالشأن السياسي أن يتوقفوا عند المائة يوم على مرور حكم رئيس منتخب وذلك قصد تحليل ومراقبة انجازاته وفقا لتعهداته الانتخابية. غير أنّ الأمر مختلف فيما يتعلق الحرب على غزة التي تعرف يومها المائة، فالتحليل هنا يتعلق بانجازات المقاومة الفلسطينية المنعزلة والمحاصرة من كل جانب أمام عدو محتل مدجج بأحدث الأسلحة الحربية ومدعم سياسيا وعسكريا من قبل كل القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي أرست جسرا جويا وحربيا لإيصال الأسلحة والدخيرة لدولة الاحتلال.
1- عقاب جماعي ضد شعب أعزل
العقاب الجماعي ضد الشعوب ليس بجديد في تاريخ الحروب. لقد كان المستعمر الفرنسي يقنبل عبر طائرته القرى والمداشر الجزائرية مخلفا بذلك عشرات القتلى والجرحى معظمهم نساء وأطفال، ويقوم بتهجير سكانها كلما قام جيش التحرير بعمليات فدائية غير بعيدة عن تلك القرى. وقبل ذلك، وفي الحرب العالمية الثانية، قامت قوات الاحتلال بقصف مدمر للمدن الألمانية خلفت وراءه آلاف القتلى من المدنيين دون تمييز بين الجنس وفئات الأعمار، ولعلّ أكبر عقاب جماعي ضد السكان تمّ عند نهاية الحرب العالمية الثانية تمثل في إلقاء القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي مخلفة آلاف القتلى المدنيين.
الكيان الصهيوني كدولة احتلال راح هو الآخر يعاقب الشعب الفلسطيني الساكن بقطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى، وقد أشار رئيس الكيان في إحدى تصريحاته غير المسؤولة إلى أن لا فرق بين حماس والشعب الفلسطيني المحاصر بقطاع غزة، ومن ثمة فهو يتحمل مسؤولية ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023، مبررا بذلك الإبادة الجماعية للسكان المدنيين. ومن المحتمل جدا أن يكون مجلس حرب الكيان الصهيوني قد فكر في رمي قنبلة نووية لإبادة الشعب الفلسطيني بقطاع غزة عن آخره، كما أشار إلى ذلك أحد وزراء الكيان. وقد صرّح مؤخرا وزير التراث الصهيوني أن القتل أرحم للفلسطينيين ويجب إيجاد تقنية أكثر إيلاما من الموت لمعاقبة الشعب الفلسطيني.
لقد تجسد هذا العقاب في قتل واستشهاد أكثر من 23 ألف ضحية معظمهم أطفال ونساء وشيوخ، ناهيك عن المفقودين تحت الأنقاض. كما تعدّى عدد المجروحين الخمسين ألف لم يجدوا المستشفيات والأدوية والأطباء والممرضين لتلقي العلاج. لقد دمر الكيان معظم المستشفيات مدعيا أنها ثكنات لمقاومين، وهو يهدف بعمله هذا في الحقيقة قتل ما تبقى من جريح ومريض، كما دمّر 70 بالمائة من البنية التحتية، ولم يمنع من التدمير المدارس والجامعات والكليات والمساجد والكنائس والمؤسسات العمومية، بل سعى إلى تحطيم المزارع بمنتجاتها مسببا في ذلك مجاعة لا بسبب الطبيعة، وإنما بسبب الآلة الحربية للكيان الصهيوني. لقد كان شعاره : يجب جعل قطاع غزة غير قابل للحياة حتى يدفع بالسكان إلى الهجرة القسرية.
2- التهجير القسري كحل صهيوني
فكّرت الحكومة الصهيونية في تهجير سكان غزة قبل بداية الاجتياح البري للقطاع. وكانت نية الكيان تتمثل في تهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء باتفاق مع الحكومة المصرية، بل فكرت حكومة نتنياهو حتى في تهجير سكان الضفة الغربية إلى الأردن. والحقيقة خطة التهجير هذه لمح لها بنيامين نتنياهو في كتابه المعنون: مكان تحت الشمس أو مكان بين الأمم الصادر في سنة 1993، أي أثناء الإمضاء على اتفاق أوسلو بين الحكومة اليسارية بقيادة إسحاق رابين ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات. ومما جاء في الكتاب أنّ “أرض إسرائيل التاريخية” تضم كل الأراضي الأردنية والأراضي الفلسطينية، ويرى أنّ حكومة الانتداب أي بريطانيا أخطأت لما قدّمت أرض الأردن إلى الملك عبد الله وإنشاء المملكة الهاشمية الأردنية على “أرض إسرائيل”. كما يرى أنّ الأمم المتحدة أخطأت هي الأخرى عند قرار التقسيم في 1947.
ويرى الصهيوني نتنياهو أنّ إسرائيل تتقبّل مع ذلك الأمر الواقع أي دولة الأردن، ولكن لا يحق للشعب اليهودي التنازل عن شبر من أرض فلسطين التاريخية، لذلك فهو ضد حل الدولتين، ويرى أن تسوية المشكل يكمن في تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، أو العيش تحت دولة الاحتلال على غرار عرب 1948.
طبعا رفضت كل من الحكومة المصرية والحكومة الأردنية حل الهجرة رغم الإغراءات المالية التي من المزمع تقديمها من قبل إسرائيل بمعية حلفائها لكل من مصر والأردن الذين يعيشان أزمات اقتصادية خانقة. هذه الوضعية دفعت بحكومة الكيان إلى التفكير في تشتيت سكان القطاع بين عدة دول عربية من بينها السعودية التي هي في أمس الحاجة إلى اليد العاملة في ميدان البناء لتحقيق مشروعها النهضوي 2030. بل فكرت حكومة الكيان في دول غير عربية مثل قبرص والكونغو الديمقراطية وبعض الدول الأوروبية لاستيعاب هجرة سكان القطاع.
3- سر صمود المقاومة بعد مائة يوم من الحرب
إنها أكبر حرب تخوضها إسرائيل مع فصيل حربي لحركة حماس منذ اندلاع الحروب بين الطرفين في سنة 2008. وقد عرف الطرفان قبل طوفان الأقصى خمسة حروب، أكبرها دامت 51 يوما في سنة 2014. وكانت غالبا ما تنتهي الحروب بعد مفاوضات يتوسطها الطرف المصري وأحيان القطري. غير أنّ هذه المرة ونظرا لنجاح عملية طوفان الأقصى التي باغتت فيها حركة حماس جيش الكيان وقتلت ما يقارب 1200 إسرائيلي وأسرت أكثر من 200 منهم، قرر مجلس حرب الكيان ألا يغادر القطاع إلا بالقضاء كليا على كتائب عز الدين القسام وحركة الجهاد، وتحرير الأسرى.
القليل من استشرف أنّ المقاومة ستصمد أكثر من مائة يوم. فإلى يومنا هذا لم يتم تحرير أي أسير إسرائيلي رغم الاجتياح البري والدعاية بالقضاء على الأنفاق التي بلغ طولها 580 كلم، فيما لم يدمر جيش الكيان إلا بضع كيلومترات. بل لم يقدم الكيان أي حصيلة فعلية عن سقوط المقاومين، وراح يقدم أعدادا بالجملة تصل الآلاف، وكأنه يرى أنّ كل سكان غزة مقاومين بما فيهم أطفال الرضع. في المقابل لعب الاستعلام الحربي للمقاومة دورا إيجابيا لرفع معنويات المقاتلين والحط من معنويات الصهاينة مظهرا صورا حقيقية أثناء الهجوم على جنود الاحتلال وآلياتهم العسكرية. ولم يقدم الكيان إلا أعداد قتلى الضباط والجنود القاطنين بإسرائيل ولهم عائلات في انتظار الرجوع، والذين وصل تعدادهم أكثر من 185 منذ الاجتياح البري، أما قتلى المرتزقة من مزدوجي الجنسيات فلم تشر إليهم، ناهيك عن المجروحين وكبار المعطوبين والمحبطين نفسيا.
قد يتساءل أي خبير عسكري عن مدى استعداد المقاومة لخوض هذه الحرب الشرسة خاصة وأنها محاصرة من كل جانب حيث لا سلاح ولا ذخيرة تدخل من خارج القطاع، فيما يستفيد الكيان من جسر جوي وبحري أمريكي لإمداده بالسلاح والدخيرة (أكثر من 40 باخرة و250 طائرة محملة بالأسلحة والدخيرة). فهل يستطيع المقاومون الفلسطينيون الصمود حربيا مائة يوم أخرى؟ هل سلاحهم وذخيرتهم كافية للاستمرار في المقاومة؟ هل يكمن سر الصمود في شبكة الأنفاق التي تتعدى 580 كلم ولا يعرف خباياها إلا ساكنيها من المقاومين؟ أين هم الأسرى؟ من يحرسهم ومن يعتني بيومياتهم البيولوجية؟ إنها الأسئلة التي حيرت قادة الكيان ولم يجدوا لها جوابا ولا حلا.
4- التفكير فيما بعد الحرب: لكن المقاومة مستمرة
من يحكم قطاع غزة بعد القضاء على المقاومة؟ وهل تمّ القضاء على المقاومة للكلام عن سيناريوهات ما بعد الحرب؟ الكل يقترح ولا اتفاق في الأفق. يرى بعض وزراء الحكومة اليمينية أنه يجب إعادة احتلال القطاع وبناء مستوطنات يهودية من جديد بعد أن هدمها شارون في 2005، وهو الاقتراح الذي ترفضه مبدئيا أمريكا التي أحيت باحتشام حل الدولتين على غرار الدول الغربية. فهم قادة الغرب أنه يستحيل القضاء على حماس في بضع شهور، فهاهو رئيس فرنسا ماكرون يقول أنه لا يمكن القضاء على حماس حتى بعد عشر سنوات من الحرب، بعد أن طالب في الأيام الأولى من معركة طوفان الأقصى تحالف دولي ضد حماس، وهو خطأ دبلوماسي واستراتيجي نال منه الكثير من الانتقادات حتى من طرف أقرب مسانديه.
يقترح البعض ضم القطاع إلى سلطة عباس برام الله بعد أن يتم القضاء نهائيا على المقاومة، لكن كل الاستفتاءات التي تمت بعد طوفان الأقصى توحي أن محمود عباس انتهى سياسيا، وأصبح التفكير في خلافته محل نقاش واقتراحات بالعواصم العربية والغربية. هناك من المطبعين العرب ومعهم الحكومة اليمينية من فكرّ في محمد دحلان المقيم بالإمارات، وهناك من العرب المعتدلين من فكر في السجين الفلسطيني مروان البرغوثي نظرا لشعبيته بالضفة والقطاع، وهو ما يرفضه قطعا الصهيوني نتنياهو حيث يراه مقاوما بذهنية تحررية. كما فكر البعض في جعل القطاع تحت سيطرة الأمم المتحدة وبعض جيوش العرب المطبعين. وكل هذه السيناريوهات ستلقى أكيدا صمودا من الشعب الفلسطيني القاطن بغزة بعد أن دفع الكثير من الشهداء والجرحى.
ما يؤسف له لحد الآن هو غياب كل من الصين وروسيا في المشاركة في صناعة القرار بالمنطقة، ولم يتجرآ حتى في استعمال حق النقض في الاقتراح الأمريكي لإدانة الحوثيين الأمر الذي فتح الباب أمام أمريكا وبريطانيا للهجوم على مواقع الحوثيين المساندين للمقاومين الفلسطينيين. أكيد مصائب الفلسطينيين كانت خيرا على الروسيين في حربهم مع أوكرانيا، كما كانت خيرا على الصينيين في تركيزهم على جزيرة تايوان. ومع ذلك يبقى ما قامت به إفريقيا الجنوبية حدثا تاريخيا عرّى الكيان الصهيوني وكل من يدور في فلكه من الغرب المتصهين والعرب المطبعين. وفي كل الأحوال، يبقى صمود المقاومة والإيمان بعدالة القضية من قبل شعوب العالم أهم سند للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية بعد أن تم قبرها من قبل اتفاقيات أبراهام المشؤومة.

محمد سعيد بوسعدية: كاتب وباحث حر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى