بقلم: احسن خلاص
تحل غدا الذكرى الأولى لوفاة الفريق احمد قايد صالح. الوفاة التي جاءت وفاجأت خصومه قبل حلفائه في المعركة الشرسة التي خاضها لما يقرب من 10 أشهر على جميع الجبهات وقد رمت به الأقدار إلى مسرح الأحداث من حيث لا يشعر ولو تواعد معها لاختلف معها في الميعاد بالنظر إلى مساره العسكري البحت الذي لم يكن ينتظر إلا أن يختمه بتقاعد يختفي به عن الأنظار.
كان للرجل موعد مع اللحظة ذاتها التي كان يمكن أن تكون فرصة لانبعاث سياسي قوي في الجزائر بفضل انطلاق حراك شعبي عظيم وتاريخي لم يكن له أن يتصورها بالرغم مما أشيع عنه من طموحات في تولي رئاسة الدولة عام 2014، يومها كان يجري الحديث عن خليفة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وقد انطلق البحث عنه في سرايا النظام وقد تداولت الألسن عبارة نسبت إليه يصعب نفيها أو تأكيدها وهي عبارة “لم لا أنا” pourquoi pas moi وتكون هذه العبارة قد وصلت إلى مسمعه لذا كان يلح في العديد من خطاباته على نفي أي طموح سياسي عن نفسه.
كان احمد قايد صالح أكثر رجال إخلاصا للدولة إذ ارتقى إلى أعلى المراتب داخل المؤسسة العسكرية وتولى أرقى الوظائف حيث جمع بين رئاسة أركان الجيش وإدارة وزارة الدفاع بالنيابة عنه فضلا عن استرجاع رئاسة أركان الجيش العديد من المديريات الفرعية التي كانت قد احتكرتها دائرة الاستعلامات والأمن في زمن الفريق محمد مدين ومنها دائرة أمن الجيش التي والسكورات وغيرها من الدوائر المرتبطة بالأمن. فمن ورقلة راح يطالب بتطبيق المادة 102 ليدفع بالرئيس للخروج. ومن هنا كان تاريخ 2 أفريل 2019 مفصليا لرئيس الأركان قايد صالح إذ بدأ منه عهد جديد.
لم يكن التخلص من الرئيس بوتفليقة غاية بذاته عند قايد صالح إذ لم يكن يشكل بالنسبة إليه خطرا إلا الناحية الشكلية من حيث كونه عقبة مؤسساتية من موقعه رئيسا للجمهورية، وكان ينتظر انتهاء الولاية الرئاسية في 28 أفريل ليشرع في معركته الحقيقية ضد “العصابة”. لكن خروج الرئيس قبل هذا الموعد أعطى للرجل القوي الجديد في السلطة فرصة أقوى وجعلته في رواق أفضل لقيادة معركة شرسة ضد المحيط السياسي والمالي الذي كان وراء السعي للولاية الخامسة وابتدع بعد ذلك فكرة التمديد للرابعة. فقد ظهر للرأي العام في ثوب البطل والرمز لتلك الوثبة التاريخية والأب الحنون للحراك بعدما وعد بضمان أمن وسلامة المتظاهرين في مسيرات الحراك الشعبي التي كانت تتم تحت طوق أمني شديد ولم تسل فيها قطرة دم جزائري بفضل الالتزام المقدس بالسلمية من قوات الأمن ومن المتظاهرين.
اكتشف الجزائريون في قايد صالح شخصا جديدا، بعد شهر مارس 2019 حيث انتهى ذلك الذي كان يمجد رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع في كل خطبة يطل بها على الرأي العام. ظهر مكانه ذلك الذي روج لصورة جديدة عنوانها التلاحم بين الجيش والشعب، صورة اختفى منها الرئيس بوتفليقة في انتظار أي تختفي وراء أسوار السجون العصابة التي كادت أن تستولي خارج الدستور على دواليب الحكم وتحدث تغييرات جذرية في بنية قيادة الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى.
وصلت إلى يدي الرجل القوي الجديد ملفات فساد ضخمة تورط فيها مسؤولون سياسيون ورجال أعمال كانوا محسوبين على شقيق الرئيس اتخذوا من استمرار سلطة بوتفليقة مطية للحفاظ على امتيازاتهم وصون أنفسهم من أي متابعة قضائية أو أي محاسبة. وبعد أن أشهد الرأي العام على فضاعة ما بين يديه من ملفات وعد القضاء بالحماية من أي ردات فعل انتقامية أمام التحقيقات الطويلة والمعقدة التي شرعوا فيها ابتداء من منتصف شهر ماي من العام الماضي ومكنت من رؤية شخصيات من أمثال احمد أويحيى وعبد المالك سلال وعبد الغني هامل وحداد وكونيناف وولد عباس وغيرها من الشخصيات التي كانت في واجهة تنشيط العهد البوتفليقي لاسيما في سنواته الأخيرة كما شملت التحقيقات شخصيات عسكرية ومن عالم الأعمال كانت محسوبة على المدير السابق لدائرة الاستعلامات والأمن محمد مدين.
كانت الحرب التي شنها قايد صالح على جبهات متعددة فإلى جانب تشغيل جهاز القضاء لتحييد العصابة البوتفليقية كان القضاء العسكري في مواجهة جماعة موريتي التي ضمت السعيد بوتفليقة والويزة حنون وتوفيق مدين وبشير طرطاق التي كانت تعد لفتح مرحلة انتقالية بقيادة شخصية وطنية وقد عرضت الأمر على الرئيس الأسبق اليامين زروال واستشارت في ذلك الجنرال المتقاعد خالد نزار. وإلى جانب هاتين الجبهتين ظهرت لقايد صالح جبهة ثالثة لا تقل خطورة في نظره عن الجبهتين السابقتين وهي جبهة القوى الديمقراطية التي صارت تطالب بمرحلة انتقالية وبمجلس تأسيسي. وظل قايد صالح إلى آخر يوم من حياته يعتبر قطب التغيير الديمقراطي امتدادا للعصابة البوتفليقية من جهة ولجماعة موريتي التي كانت تخطط للانقلاب على قيادة الجيش آنذاك.
دخل قايد صالح منذ جويلية في معركة جديدة مع قوى التغيير الديمقراطية اذ منع رفع الراية الأمازيغية كما أقام طوقا شديدا أمام دخول المتظاهرين من الولايات المجاورة إلى العاصمة لاسيما من منطقة القبائل التي يأتي منها جل أنصار هذا التيار الذي شن حملة مناهضة للخيارات السياسية التي بادرت بها قيادة الجيش للعودة إلى المسار الانتخابي انطلاقا من تنظيم انتخابات رئاسية قبل نهاية العام.
ها هو الحول قد دار على اليوم الذي ودع فيه قايد صالح الدنيا ومعه تساؤلات عما بقي من المسار الذي أطلقه ومن المعارك التي خاضها مع الحديث السائد اليوم عن ردة واضحة عن النهج الذي انتهجه. ويبقى التساؤل المحوري قائما: ماذا لو لم يرحل قايد صالح.