أقلامالأولى

ماكرون ضيفا على الدوامة الجزائرية

بقلم احسن خلاص

لم يعد يؤثر خطاب المسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم الرئيس ماكرون على الفرنسيين بالقدر الذي يؤثر على الرأي العام في الجزائر وفي بلدان العالم الإسلامي وقد صار ينافس المسؤولين الأمريكيين في الحديث عن الغير قبل الحديث عن الذات غير أن الضجة التي يثيرها ماكرون تتحول إلى صخب كبير عندما يتعلق بشؤون الجزائر.

ولم تكد تنته جولته مع العالم الإسلامي حتى فتح جولة جديدة إفريقية هذه المرة من خلال حوار له مع مجلة “جون افريك” التي تعرف باختيار الزوايا المثيرة للجدل في تدخلات الفاعلين الذين تختارهم للحوارات. وعند اختيارها ماكرون وهو يتوجه من خلال المجلة إلى الشعوب الإفريقية كان لابد من إلقاء السمع لمعرفة التوجهات المعلنة للرئيس الفرنسي بشأن التطورات الحاصلة في الجزائر.

في المقطع الذي خصصه للجزائر لم يشأ ماكرون أن يخرج عن دائرة أناه الضخمة ليبدو وكأنه لا يعرض وجهة نطر ملزمة للجمهورية الفرنسية باعتباره رئيسها بل يعرض انطباعات شخصية ليجس نبض الشارع الجزائري ويسبر ردود أفعاله. ولم يخرج ماكرون من دائرة التحليل إلا في اللحظة التي عبر فيها عن عزمه على مساعدة الرئيس تبون لإنجاح “المرحلة الانتقالية” التي يخوضها مبررا ذلك بكون الرجل من الشجاعة ما يجعله أهلا لهذا الدعم من الرئيس ماكرون.

ويمكن إدراج هذا التعبير الذي أثار ردود أفعال متباينة ضمن رسائل الود التي لم تعد تسلك المسالك والقنوات الديبلوماسية المعهودة كالرسائل الشفوية والمكتوبة المعهودة في الأعراف الديبلوماسية بل صار الرئيسان يتبادلانها عبر وسائل الإعلام، فقد سبق للرئيس تبون أن أشاد في مناسبتين، مع صحيفة لوبينيون وقناة فرانس 24 بشجاعة وإرادة الرئيس الفرنسي فتح الملفات الحساسة بين البلدين والمضي بالعلاقات الثنائية إلى أقصى حدود التقارب وها هو ماكرون يرد بالمثل على الرسائل اللطيفة للرئيس الجزائري لاسيما وأن هذا الأخير اضطر للتنقل إلى المستشفيات الألمانية للعلاج من وعكته الصحية دون أن يتمنى له، بالمناسبة، الشفاء العاجل.

وخلافا للخطابات شديدة اللهجة تجاه النخب السياسية في لبنان عقب الانفجار الذي شهدته بيروت بداية شهر أوت الماضي حيث طالب بإصلاحات سريعة وتشكيل حكومة في آجال محددة متوعدا بعقوبات قد تطال المسؤولين اللبنانيين فإن خطاب ماكرون تجاه الجزائر فضل أن يدخل من نافذة شخص الرئيس تبون الذي وعده بمساعدته على إنجاح قيادة المرحلة الانتقالية الصعبة بحكم صعوبة التحكم في الحراك الشعبي المنقسم إلى حراكين مختلفين، حراك الريف الأكثر دعة وسكونا وحراك المدينة الذي يحتفظ بنزعة تمردية معيقة لمسار الاستقرار الذي ينشده الرئيس تبون.

ولو أن ماكرون لم يفصح لقراء المجلة عن مكامن شجاعة الرئيس تبون إلا أنه يمكن أن نبحث عنها في قدرته على مقاومة المرض بالرغم من شدته عليه بحيث اضطره للسفر إلى أكبر المستشفيات الألمانية كما يمكن أن نجدها في قدرته في نطر ماكرون على اقتراح إصلاحات سياسية جريئة تتجاوز النزعة المحافظة للنظام المؤيدة بالمواقف الرافضة للتيار الإسلامي من التعديلات الدستورية من منطلق توجهها المبالغ فيه إلى “العلمانية”.

غير أن الشجاعة الأقرب إلى البنية الذهنية والخلفية الثقافية للرئيس الفرنسي تبرز جليا في جرأة الرئيس تبون على الثناء على الملأ على الرئيس الفرنسي والتعبير الصريح منه عن استعداده للعمل معه بالنظر إلى إخلاصه وصدقه. ومن مكامن شجاعة تبون التي أثارت إعجاب ماكرون قدومه اللامشروط على فتح الملفات الأكثر حساسية كملف الذاكرة المشتركة المرتبطة بعهد الاحتلال الفرنسي للجزائر الأمر الذي لم يفلح الرؤساء السابقون بما فيهم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي اجتاز جميع العقد والعقبات تجاه فرنسا الاستعمارية دون أن ينجح في فتح ملف الذاكرة مع الرؤساء الفرنسيين الذين واكبوا فترات حكمه.

غير أن الخطاب الجزائري لماكرون بقدر ما أعاد الرئيس تبون إلى واجهة الأحداث فإنه لم يفلح في استقطاب أي طرف من المشهد السياسي القائم، فعلى اختلاف أطياف هذا المشهد فقد وقع الاتفاق على عدم الرضا عن تدخل الرئيس الفرنسي في الشأن الجزائري فأنصار الرئيس تبون الذين يريدون تقديمه بصورة ذلك الرجل النوفمبري الذي صرح يوما بأنه سيصلي في الجامع الأعظم ولو كره الفرنسيون والرئيس الذي اختار الفاتح من نوفمبر يوما للاستفتاء على التعديلات الدستورية لا يرون في تصريحات ماكرون إلا محاولة تشويش على تلك الصورة الثورية الجميلة.

كما أن الإسلاميين الذين رفضوا التعديلات الدستورية لإفراطها العلماني على الطريقة الفرنسية يجدون في تصريحات ماكرون مبررا يعزز منطلقاتهم الإيديولوجية إذ أن الرئيس الفرنسي لا يمكن له في نظرهم أن يدعم مرحلة انتقالية تصب في خدمة ثوابت الأمة. أما العلمانيون فقد جاء ردهم سريعا هذه المرة رافضين الوصاية الفرنسية على الجزائر وافريقيا ومعتبرين تصريحات ماكرون بمثابة دعم لسياسة تبون على حساب القوى الديمقراطية التي يتبناها “حراك المدينة” بالرغم من اعتراف ماكرون بأن ما أنجزته التعديلات الدستورية الأخيرة بعيد جدا عن أن يرقى إلى “معاييرنا” فقد تمنى أن تتطور مستقبلا نحو معايير الدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة على النموذج الفرنسي أو تلك المعايير التي توقعها للمستقبل رئيس لجنة مراجعة الدستور احمد لعرابة الذي قال إنه سيأتي على أمتي دستور لا عربية فيه ولا أمازيغية ولا إسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى