احسن خلاص
دون أن ندع أنفسنا نقع في متاهة اختلاف الدلالات التي تحملها الكلمات بين هذه اللغة أو تلك، اندهش الفرنسيون قبل غيرهم وهم يكتشفون رئيسهم القديم الجديد مانويل ماكرون يمنح حزبه اسما جديدا، وإن كان الأمر طبيعيا ومطلوبا أحيانا لإعطاء إشارات أن الولاية الثانية له لن تكون نسخة من الولاية الأولى مع أن هذه الفترة الجديدة في جانب منها تعد استمرارا لما شرع فيه في السابق لأن التغيير يمر بإنجاز قطائع لكنه أيضا بناء وتراكم. لم يستغرب الفرنسيون أن يغير ماكرون تسمية حزبه بقدر ما استغربوا أن يبحث في دولاب التاريخ عن كلمة لم يعد يلتقيها الفرنسيون والغرب عامة إلا في الكتب التاريخية والفلسفية التي تتحدث عن فترة وإن كانت ذات أهمية كبيرة في تاريخ أوروبا إلا أنها أمة قد مضت لها ما كسبت.
تحولت حركة ماكرون التي أنشأها منذ ست سنوات تحت مسمى la république en marche ” التي اتفق على ترجمتها إلى العربية بعبارة “الجمهورية إلى الأمام” إلى renaissance ، هذه التسمية الجديدة التي أثارت الفضول دون أن تثير الجدل داخل فرنسا وخارجها لاسيما وأن ماكرون ومن حوله لم يشاءوا أن يبينوا للرأي العام مبررات اختيار هذه التسمية التي تعني الميلاد الجديد بالرغم من أن المترجمين فضلوا أن يقابلوها بكلمة واحدة هي النهضة وهذا ما ظهر في ترجمة كتاب مالك بن نبي شروط النهضة، وهي الكلمة التي صارت لصيقة عندنا بالحركة الفكرية التنويرية التجديدية التي ظهرت في القرن التاسع عشر كتقليد للحركة التي عرفتها أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ظل مصطلح النهضة براقا وجذابا خلال القرن العشرين حتى أن شباب التيار الإسلامي عند بداياته في فترة السبعينات استثمر فيه فنشأت حركة النهضة الإسلامية على يد عبد الله جاب الله في الجزائر وحركة النهضة الإسلامية في تونس على يد راشد الغنوشي ولا تزال هذه التسمية قائمة إلى اليوم حتى أن الكثير من المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي دعوا ماكرون مازحين إلى اقتراح جاب الله أو الغنوشي لقيادة حزبه.
أول ما لفت انتباه الفرنسيين هذه العودة إلى الماضي فحركة النهضة الأوروبية شملت التاريخ والثقافة والمجتمع ومهدت لعصر التنوير الذي أثمر ثورات قلبت الأوضاع السياسية والفكرية والدينية في أوروبا رأسا على عقب. يكاد يتفق المتابعون على أن شيئا من هذه الخلفية التاريخية موجود في ذهن من اقترح هذه التسمية، ويكون وضع هذا الاسم قد استلهم من النقاشات الحادة التي عرفتها الحملة الانتخابية الرئاسية مؤخرا التي أظهرت نزعة قوية للرجوع إلى الماضي والاهتمام بالهوية والتأسيس. فمصطلح النهضة يقع بين هذه النزعة للعودة إلى نقطة مضيئة في الماضي وبين نزعة التقدم إلى الأمام، فقد بات عبارة “في الوقت ذاته” لصيقة بالرئيس الفرنسي بالنظر إلى نزعته التوفيقية في كل الأشياء، وهنا أراد التوفيق بين التوجه القديم والإنساني المبني على الحرية والتسامح والإيمان بالعلم كبديل للعقائد الدينية الموروثة عن القرون الوسطى.
في عام 2017 انطلق ماكرون وهو يجر الجمهورية الخامسة إلى الأمام والطبقة السياسية الفرنسية يمينية كانت أو يسارية كانت منهارة ومستهلكة، لم يعد لها ما تقدمه للفرنسيين كما انطلق من مسلمة أن الجمهورية إذا لم تسر إلى الأمام ستعود القهقرى أمام تنامي الشعبوية والتطرف. وفي عام 2022 اكتشف ماكرون أن فرنسا بحاجة إلى نهضة قبل التفكير في السير إلى الأمام، بحاجة إلى البدء من جديد. فهل انطلق ماكرون من أن فرنسا بعد خمس سنوات من فترته الرئاسية بحاجة إلى إعادة النظر في كل شيء؟
من المؤكد أن الوضع البائس الذي وجدت فيه أوروبا نفسها مع الحرب الروسية الأوكرانية قد دفع ماكرون إلى التفكير في ما هو أبعد من الإصلاح والترميم، إلى اقتراح مشروع حضاري يتجاوز الحلول السياسية لاسيما وأن هناك موجة من الانتقادات وضعته في قفص الاتهام بأنه المسؤول عن تراجع فرنسا داخليا وخارجيا فهل يريد ماكرون تحويل وجهة الجمهورية من الأمام إلى الوراء؟