أقلامالأولى

مجتمع الحريات أمام دولة القيود

بقلم احسن خلاص

تسعى الديمقراطيات الغربية الحديثة إلى بناء مجتمع الحريات لذا تجتهد دوما من أجل تكريس ممارسة الحريات المختلفة انطلاقا من حريات التعبير والعمل والتجمهر والتجمع والتحزب والانتظام في النقابات والمنظمات التي تضاف إلى حريات التفكير والاعتقاد والزواج والطلاق وغيرها من الحريات التي لا قيد لها إلا بما يمنعها من المساس بالنظام العام والاستقرار المجتمعي والسياسي.

غير أن الحريات التي صارت تدافع عنها مذاهب وتقام من أجلها المنابر الفلسفية والسياسية وتنشأ حولها آراء متضاربة بدأت تغرق في أزمة يوشك أن توصلها إلى مأزق يمكن أن نسميه مأزق الحريات. إذ تتحول من واقع معاش يتمتع به الفرد والمجتمع إلى مثاليات تتصدر عناوين الكتب والصحف وتملأ العوالم الافتراضية دون أن تجد لها حيزا في واقع يتجه نحو الضيق والازدحام السياسي والاقتصادي والإيديولوجي.

يعيش عالم اليوم بما تفرضه عليه منتجات العولمة وتقلبات الحياة العصرية في ضيق شديد يجعل ممارسة الحريات حلما جريئا في مجتمعات صارت لا تقبل الاختلاف والتنوع ولا تتسع للتبادل والتفاعل، بل وقد يذهب الضيق بالفرد ذاته لأن يمارس على نفسه الرقابة حتى في خلوته وحميميته. وثمة مثال نقدمه في كل مرة نتحدث فيه عن حرية التعبير، فلنتصور أن واحدا منا يدخل غرفة ويغلق على نفسه ويأخذ قلما وورقة للكتابة دون أن يراقبه أحد فهل يستطيع كتابة فقرة واحدة دون أن ينال ما يكتبه شطب كلمات أو جمل لاستبدالها بأخرى؟ 

تطمح الإنسانية إلى ممارسة الحريات بأقصى تجلياتها غير أنها في الوقت ذاته تعمل بما أوتيت من قوة للوقوف في وجه تلك الحريات حتى على المستوى الفردي كما أشرنا، فيصبح البحث عن الحرية والسعي إليها مجرد محاولة تمرد على البرمجيات الذاتية والجماعية التي يبنيها التراكم التاريخي والاجتماعي والثقافي بحيث يجد الفرد ذاته أمام عقبات وضعها بنفسه.

يبرز وهم البحث عن الحريات في موجات الهجرة التي يقوم بها الشباب راكبا الخطر عبر البحر، من أجل استهلاك منتجات المدنية الغربية الحديثة لكن ما يلبث أن يكتشف أنه انتقل من حبس بشروط بدائية إلى حبس آخر بشروط أكثر تطورا وتعقيدا تتلاشى معها كل الأوهام التي بناها في مخيلته. يجد نفسه أمام طائلة القانون في حركاته وسكناته وفي نظام لا يتيح المجال للخطأ ولا يتركه دون عقاب، شوارع مليئة بكاميرات تصور أدنى الحركات والسلوكات الفردية والجماعية وبمراقبة إلكترونية للمخالفات المرورية التي تفرض عليه الغرامة.

من بين التأثيرات الكبرى للظاهرة الإرهابية في عالم اليوم أنها استطاعت أن تقلب النظرة إلى الحريات رأسا على عقب فقد أحدثت تفجيرات 11 سبتمبر من عام 2001 مثلا تغييرا جذريا في مفهوم الحريات العامة. فقد انتقلت حالات الطوارئ وحالات الحصار التي كانت ميزة من ميزات بلدان العالم الثالث إلى الغرب وصارت أسلوب حكامة جديد. فقد أتاحت الظاهرة الإرهابية وتنامي العنف الاجتماعي والسياسي في كل أصقاع العالم الفرصة للعقل الأمني ليشتغل ويظفر بمزيد من المواقع في إدارة المجتمعات بالمخاوف والهواجس. حتى أن ما كانت تقتضيه القوانين من قبل من سرية الاتصالات لم يعد بالقداسة التي كان عليها من قبل عندما صار التصنت إلى المكالمات وتسجيلها في صميم العمل الروتيني للأجهزة الأمنية في الكثير من الدول التي تدعي السبق في التجربة الديمقراطية مثل فرنسا التي منعت حكومتها على المواطنين تصوير أفراد الشرطة عند تأدية مهامهم لاسيما المتعلقة بالمداهمات وأعمال القمع التي تمارسها على المتظاهرين.

لقد أعطت مكافحة الإرهاب شرعية للسلطات السياسية والأمنية في الغرب الديمقراطي للتحكم أكثر في المجتمع بدعوى حمايته من العنف وضمان أمنه وسلامته. والمفارقة التي لا ينبغي المرور عليها مر الكرام أن الوافدين على هذه الدول من مجتمعاتنا لا يجدون حرجا في الاندماج ضمن الشروط الجديدة التي تفرض على الحياة العامة، إلى درجة أن المهاجرين لا يقلون حرصا واهتماما بالامتثال للشروط الوقائية من وباء كورونا والتزام الحجر المنزلي لساعات طويلة عن مواطني البلد المضيف. يتحول تحول دعاة الحرية في بلدانهم إلى تلاميذ منضبطين مع مجتمع القيود في الدول الغربية، قيود وإن كانت صارمة إلا أنها لا تثير دواعي مقاومتها أو الخروج عن مقتضياتها تحت طائلة العقاب بل يرضى بها الجميع كدروع لوقايتهم من تداعيات الفوضى.

تقع مجتمعاتنا في مشكلة أولويات عويصة بين ضرورة الدعوة إلى المزيد من الحريات الفردية والجماعية وبين مطلب تحكيم صرامة القانون وبناء مؤسسات قوية قادرة على حماية الفرد والجماعة من مختلف التهديدات إلى درجة أن الإنسان اليوم هنا أو هناك صار يقايض حريته بالحفاظ على حياته ويبادل هذه الحرية بالانسجام الاجتماعي والطمأنينة النفسية التي قد لا يجدها إلا بتعميم مجتمع القيود على حساب مجتمع الحريات الذي لا يوجد إلى في أذهان الحالمين.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى