بقلم احسن خلاص
نستحضر هذه الأيام الذكرى العاشرة لانطلاق الشرارات الأولى لانتفاضة بعض الشعوب العربية تجاه الأنظمة القائمة على الحكم المركزي الفردي والشمولي وقد اختلف المتابعون في وصف ما حدث بعد مقتل البوعزيزي في تنوس، بين من أهله إلى مرتبة الثورات ومن استبشر بها ربيعا عربيا وبين من لم ير فيها إلا شتاء أضيف إلى حلقات الشتاء الدورية التي عرفها العالم العربي منذ بداية القرن الماضي.
وعلى غرار كل الأزمات والفترات الشائكة التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية يلجأ المتابعون إلى تفسيرها دون أن يمتلكوا أدنى التصورات عن البدائل التي يمكن أن تقدم لتجاوز الأزمات الدورية بل ينتظر أغلب الفاعلين من مؤسسات ونخب وأفراد توفر شروط مستجدة لأزمات جديدة لينكبوا على محاولة تفسيرها وهلم جرا. ودون السقوط في براثن التفسير العقيم والجدل السقيم يمكن أن نسوق اتجاهين هامين سائدين في محاولة فهم ما حدث في الفترة الممتدة بين نهاية عام 2010 ونهاية 2013 ولا تزال آثاره ممتدة إلى يومنا هذا.
أول هذين الاتجاهين ينطلق من أن الأنظمة العربية قد ولّدت جميع تناقضاتها السياسية والاجتماعية وفقدت القدرة على إنتاج رؤى سياسية وبرامج تنموية فضلا عن أن تستوعب الحاجات التي ولدها تطور المجتمعات التي تقودها بفضل الاحتكاك والتواصل ورؤية مجتمعات أخرى لم تكن بمستوى القدرات الكامنة التي تمتلكها وقد حقق أشواطا في المشاركة والاقتسام الوطنيين سواء للثروات أو للقيم الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار أو للثروات المادية. كانت تلك الهبات الشعبية العنيفة منتظرة في نظر أصحاب هذا الاتجاه لأن الشعوب العربية أدركت أن الأنظمة الموروثة من خمسينات وستينات القرن الماضي صارت غير قادرة على أن تطعم شعوبها بما يكفي ولم تعد توفر لها الاكتفاء والإشباع من جانب ولم تحررها لتأكل من خشاش الأرض كما يقال، من جانب آخر، فقد قامت تلك الأنظمة أساسا على تقييد حديدي للحريات مقابل اعتبار العمل والسكن ودعم القدرة الشرائية للجميع وعلى قدم المساواة حقوقا أساسية وواجبات مقدسة على الدولة، ولما شاخت وهرمت ونضب معينها من الريوع التي أقامت عليها سلطانها لم يعد أمامها إلا تلك الآلة القمعية البوليسية التي تضطر للجوء إليها عند أي اضطراب أو احتجاج على تراجع الدولة في أداء واجباتها. لقد كانت الانتفاضات الشعبية العربية من منطلق هذا الاتجاه ترمي إلى إعادة ذلك التوازن القائم بين قمع الحريات وتوفير الحقوق أو إطلاق الحريات أمام انعدام ما يقابلها من الحقوق الثابتة أو ما يسمى بلغة الاشتراكية المكتسبات.
انطلقت “الثورات العربية” حسب هذا الاتجاه تحت عنوان “الكرامة” ولم تكن تستهدف بالدرجة الأولى إسقاط قادة الدول فضلا عن إسقاط الأنظمة ذاتها بل كانت تدعوها إما إلى إطعام الجائعين أو إطلاق سراحهم. ولم يجر التفكير في إسقاط الأنظمة إلا بعد ردة الفعل العنيفة من قادتها تجاه تلك الانتفاضات، فقد كان سقف المطالب يرتفع تدريجيا مع التعنت الذي أبداه بن علي ومبارك والقذافي والأسد وعبد الله صالح تجاه مطالب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة. ودليل هؤلاء أن الأنظمة التي استبقت تطور المطالب بعروض إصلاحية سياسية ولو وهمية نجت من العاصفة العربية الهوجاء مثل الجزائر والمغرب وموريتانيا وبلدان أخرى. وخلاصة مثل هذه التفسيرات أن الأنظمة لم تكن بالعبقرية التي تؤهلها لقراءة ما جرى حولها على أنه تطور اجتماعي داخلي انعكس على الوعي السياسي وجعل الشعوب حبلى تنتظر فقط اليوم الذي يأتيها فيه المخاض.
الاتجاه الثاني وهو الذي تبنته الأنظمة ذاتها والنخب المحيطة بها ينطلق من أن ما حدث كان منتظرا بالنظر إلى المخططات التي كانت تصاغ في دوائر غربية وصهيونية ضمن ما يسمى الشرق الأوسط الجديد أو ضمن مبدأ الفوضى الخلاقة أو التراجع الخصيب. ودليل هذا الاتجاه أن القوى الغربية لم تعتبر يوما ما حدث شأنا عربيا داخليا بل تدخلت فيه منذ الوهلة الأولى وصارت طرفا فاعلا في سير الأحداث سواء بشكل مباشر أو عن طريق دول أنيط بها دور الوكيل المعتمد. بل إن تلك المخططات لم تخف على أحد يوم خرجت إلى العلن عن طريق مؤلفات صدرت أو تصريحات وخطب ألقيت على الملأ على لسان كوندليزا رايس أو أوباما (خطاب القاهرة في 2009) أو هيلاري كلنتون وبعدها ساركوزي وهنري ليفي وغيرهم من الشخصيات الغربية التي “بشرت” بعهد جديد سيعرفه العالم العربي ضمن استراتيجية كبرى لتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ وقد كان تقسيم السودان أحد المؤشرات على اقتراب قيامة العرب وصارت كل دولة تنتظر ترتيبها في قائمة الدول المستهدفة.
ومن الأدلة التي ساقها هذا الاتجاه للإقناع بصواب مقاربته أن “الثورات العربية” لم يكتب لأي واحدة منها النجاح الذي هو ببساطة بلوغ أهدافها في التحرر والكرامة والعدالة والديمقراطية بل استحال جل الهبات العربية إلى حروب أهلية تماما كما خطط لها أصحاب الفوضى الخلاقة الذين ارتأوا إعادة انتاج التجربة العراقية وتعميمها إلى جل البلدان العربية من خلال إعادة النظر في مكتسبات الدول الوطنية من الوحدة والاندماج والتكامل الاقتصادي واللغوي والروحي بإعادة السيادة إلى القبلية والطائفية وتشكيل القوى السياسية والمسلحة المتناحرة وفق أنماط سياسية هجينة وخلق جماعات وتنظيمات “جهادية” على رأسها “تنظيم الدولة” وتنظيمات أخرى تابعة للقاعدة.
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الثورات الباطنية التي يزخر بها العالم العربي كانت نقمة عليه أكثر مما كانت نعمة فبقدر ما ساهمت الاقتصاديات الريعية الهشة في الإبقاء طويلا على الأنظمة السياسية التقليدية فقد جلبت إليها أطماع الدول الكبرى التي انطلقت من أن السيطرة على تلك الثروات لن يتم إلا بعد أن يمر على إضعاف هذه البلدان سياسيا واقتصاديا وضرب مقوماتها الوطنية. ودليل هذا الطرح أن الدول الغربية الكبرى لم تنتج المَشاهد ذاتها مع المجموعات الإقليمية الأخرى كدول أوروبا الشرقية إذ سرعان ما اندمجت في الاتحاد الأوروبي بعد إنهاء ثوراتها الداخلية. ولم تقم بالتجربة ذاتها مع دول آسيوية بالرغم من تنوعها القبلي والطائفي والنظر إليها كمنافس اقتصادي في المستقبل.
ويبقى التساؤل مطروحا: هل يمكن إصدار حكم نهائي على التجربة الثورية العربية التي انطلقت مع نهاية عام 2010 على أنها تجربة فاشلة بالنظر إلى العواقب والآثار الوخيمة التي خلفتها الصراعات الداخلية التي تبعتها أم أن ما حدث ما هو إلى حلقة مريرة من مسار ثوري طويل يجري لمستقر له ولأجل غير مسمى.
تعليق واحد