أقلامالأولى

مدة صلاحية دستور الجزائر

بقلم: احسن خلاص

تقوم الدساتير الحديثة على تكريس الفصل بين مختلف السلطات التي تهيمن على الحياة العامة وضمان التوازن بينها من خلال تغليب سلطة المؤسسات على حكم الأفراد والجماعات الخفية والجماعات الضاغطة التي تحاول دائما التسلل لإضعاف المؤسسات وإبقائها على طابعها الشكلي كواجهات لحكم الظل. وليست هذه المعادلة حكرا على بلدان العالم الثالث بل هي سائدة في أكثر الدولة عراقة في البناء المؤسساتي وتوازن القوى الاجتماعية التي تفرض تحكيم المؤسسات.

حيث تكون المصالح إذن تسود الجماعات وتنشأ تكتلات حول مصالح مشتركة لتطويرها حول الدولة وحمايتها من مزاحمة تكتلات أخرى منافسة. ومع ذلك يتفق الجميع على ضرورة أن يتزود البلد بدستور للتحكيم في ما شجر بين التكتلات والجماعات وما يتنازع فيه بين الأطراف المكونة للمشهد السياسي والأطراف الاجتماعية السائدة في المجتمع. هذه حقيقة الحياة السياسية في نواتها الصلبة والتي تكون الدساتير والقوانين الضابطة وجهها النبيل وواجهتها الأخلاقية والمثالية التي يسعى المؤسسون الدستوريون والمشرعون للقوانين إلى إظهار سموها وعلوها على الجميع.

وتشكل المؤسسات التي توضع على الورق الدستوري القنوات النظيفة التي تمرر من خلالها القرارات والتوجيهات التي تطبخ في مخابر متصلة بالنواة الصلبة وهي القرارات التي تنتج عادة عن مخاض عسير وصراعات حادة بين التكتلات المشكلة للسلطات التي تبحث في كل مرة عن إعادة تشكيل توازناتها من أجل بقاء النظام الذي تدور في فلكه.

وتشكل المؤسسات الدستورية من جانب آخر النوافذ التي تطل منها “الرعية” على مخرجات السلطة وتطل منها السلطة على الرعية لتخاطبها وتتفقد وضعها وتحفظ رموزها وتطعمها من جوع وتأمنها من خوف وتطمئنها على مستقبلها ما دام وضع العلاقات الاجتماعية السياسية مستقرا وهادئا لا اضطراب فيه ومادامت وسائل السياسة متوفرة.

وعادة ما يكون الفصل بين السلطات الدستورية مصدر إزعاج للكتل والجماعات فضلا عن أن التوازن بينها يشكل عقبة أمامها تجعل تمرير توجيهاتها عبر المؤسسات المتعددة عملية معقدة أكثر مما تكون السلطات متمركزة في جهة واحدة، وهذا قد يفسر كيف أن عدد البلدان التي تحقق فيها فعليا توازن السلطات قليل جدا إذ يجنح أغلب الدساتير إلى تكريس فصل شكلي بين السلطات دون الوصول إلى التوازن بينها بذريعة تفادي الأزمات السياسية لاسيما تلك التي تنتجها دائما الأنظمة البرلمانية أو تلك التي تحاول إحداث التوازن بين أطراف السلطة التنفيذية. وفي هذه الحالات تجد صعوبات حتى في تشكيل حكوماتها مثل ما هو حال لبنان الذي بقي دون حكومة لأكثر من عامين وبلدان أخرى تضطر لإجراء انتخابات مسبقة في كل مرة تضطرب فيها المصالح الخفية ويصعب عليها إيجاد توافقات في الغرف المغلقة.

لقد برز الاهتمام بالدستور في السنوات الأخيرة بشكل لافت في الجزائر لاسيما بعد اندلاع الحراك الشعبي العام الماضي حيث صار مطلب إعادة السلطة للشعب التي كرستها الدساتير المتعاقبة مطلبا ملحا وقد استغلته أطراف السلطة خلال ربيع العام الماضي لإنجاح انتقال الحكم بطريقة سلسة وسلمية تحفظ النظام وتضمن استمراره ونجحت في ضمان إجراء انتخابات رئاسية في ظروف آمنة حتى ولو لم تصل إلى الحد المطلوب من الشرعية والصدقية. كما ظهرت أهمية الدستور عندما جرى البحث عنه لحل الأزمة الناتجة عن رفض الشعب العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة وتفادي الدخول في الفراغ الذي يفرض مرحلة انتقالية غير مأمونة العواقب في ظل الصراعات الحادة داخل دواليب السلطة.

وتنامت أهمية الدستور أكثر لما ظهرت صعوبات إنجاز انتخابات رئاسية في موعدها المحدد ب4 جويلية من العام الماضي ضمن الشروط التي حددها الدستور ذاته لخلافة بوتفليقة مما اضطر السلطة للاستنجاد بمؤسسة دستورية وهي المجلس الدستوري لإصدار فتوى شكلية تغطي الفراغ الدستوري والمؤسساتي القائم.

ولم تكن هذه الحالة هي الوحيدة التي ظهرت فيها فجأة ضرورة اللجوء إلى الدستور لإيجاد صيغة تحسم النزاعات الظرفية المفاجئة فقد حدث عند استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في عام 1992 التي جاءت أياما بعد حل المجلس الشعبي الوطني الذي يفترض أن يحل محله رئيسه عبد العزيز بلخادم بحكم الدستور وهو ما اضطره لتقديم استقالته لرئيس المجلس الدستوري الذي رفض مهمة رئاسة البلاد بالنيابة وترك بذلك فراغا دستوريا أتاح هامشا لأطراف السلطة لإيجاد حلول خارج الدستو، فلم يكن ما حدث في 11 جانفي انقلابا على الشاذلي بن جديد بقدر ما كان انقلابا على الدستور ذاته الذي كانت المصادقة عليه في فبراير 1989 حدثا مفصليا في التاريخ السياسي الجزائري إذ نقل البلاد من عهد الأحادية إلى عهد التعددية، فقد أوقف العمل به بعد إصدار قانون حالة الطوارئ في 9 فبراير 1992 ولم يستأنف العمل بالدستور في جانب تنظيم السلطات والعلاقات بينها إلا بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 1995.

لا نكاد نشعر بوجود الدستور في مختلف المراحل التي مرت بها الجزائر بما فيها الأكثر وقعا على المجتمع والأكثر تأزما للمؤسسات، فقد عاشت الجزائر في ظل الدساتير تماما كما عاشت دون دستور مثل ما كان الحال في الفترة ما بين 1965 و 1976 التي حكم فيها نظام هواري بومدين دون دستور وسير البلاد بأمريات ومراسيم لمدة 11 سنة. فمدة صلاحية الدستور هي الفترة التي تلجأ فيها أطراف السلطة لإيجاد مخارج لوضعيات غير مسبوقة لكنه كثيرا ما خيب فيها الظن فاضطر الجميع إلى التصرف خارجه تماما مثلما لم تكن الحكومات المتعاقبة بحاجة لاحترامه ما دامت لم تظهر الحاجة الاجتماعية إلى ذلك.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى