أقلام

مدرسة الهدى بالقنطرة.. منارة علم وصمود في قلب الكفاح الجزائري

بقلم الباحث: مراد ترغيني جامعة خنشلة

في قلب واحة القنطرة الشامخة بولاية بسكرة، وعلى بوابة الصحراء الجزائرية، تنتصب ذاكرة مكان لم يكن مجرد جدران وفصول دراسية، بل كان حصناً منيعاً للهوية ومنارة للعلم في زمن عصيب. إنها “مدرسة الهدى”، إحدى الثمار اليانعة للمشروع الإصلاحي والتعليمي الكبير الذي قادته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بزعامة الإمام عبد الحميد بن باديس، شاهدةً على صمود أمة في وجه محاولات طمس تاريخها ولغتها ودينها‪.‬‬
السياق التاريخي: زمن التحدي والمقاومة
تأسست مدرسة الهدى في ثلاثينيات القرن العشرين (تم تدشينها رسمياً حوالي عام 1934)، في خضم حقبة استعمارية فرنسية عملت بكل جهد على فرض سياسة الفرنسة والتجهيل الممنهجة. كانت المدارس الفرنسية تهدف إلى مسخ الشخصية الجزائرية وفصلها عن جذورها العربية الإسلامية. في مواجهة هذا الخطر الوجودي، نهضت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي رأت النور عام 1931، بمشروع وطني عملاق: إنشاء شبكة واسعة من “المدارس الحرة” عبر ربوع الوطن. لم تكن هذه المدارس مجرد بديل تعليمي، بل كانت خنادق أمامية للدفاع عن الهوية‪.‬‬
القنطرة تحتضن “الهدى”: رمزية المكان والاختيار
لم يكن اختيار القنطرة، بجمالها الطبيعي الأخاذ وموقعها الاستراتيجي، اعتباطياً. فبوابة الصحراء هذه كانت بحاجة ماسة إلى منارة علمية ترسخ القيم الوطنية وتُحصّن أبناءها ضد الذوبان الثقافي. جاء تأسيس “مدرسة الهدى” استجابة لهذه الحاجة الملحة، لتكون مركز إشعاع للعربية والإسلام والتاريخ الوطني في منطقة بسكرة وما جاورها. جسدت المدرسة الأمل في مستقبل أفضل، مستقبل يُبنى على العلم والمعرفة والاعتزاز بالذات‪.‬‬
منهج الهدى: بناء الإنسان قبل البنيان
لم تقتصر رسالة مدرسة الهدى على مجرد تلقين مبادئ القراءة والكتابة والحساب، بل تجاوزت ذلك لتُجسّد مشروعاً تربوياً متكاملاً وذا أبعاد عميقة. كان هذا المشروع يهدف في جوهره إلى إعادة بناء الذات الجزائرية في مواجهة تحديات العصر الاستعماري‪.‬‬
في طليعة أهداف هذا المشروع، جاء السعي الحثيث لإحياء اللغة العربية‪. ‬لم تكن المسألة مجرد تعليم لغة، بل كانت استعادةً للسان القرآن الكريم، ووعاء التراث، ورمز الهوية الأصيلة، وذلك في مواجهة مباشرة لهيمنة اللغة الفرنسية التي فرضها المستعمر كأداة للمسخ الثقافي والقطيعة مع الجذور الحضارية للأمة‪.‬‬‬
وبموازاة ذلك، أولت المدرسة عناية فائقة لترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الناشئة. تمثل هذا في نشر تعاليم الدين السمحة المعتدلة، وتنقيتها من الشوائب والخرافات والبدع التي طالما سعى المستعمر لاستغلالها وتوظيفها لتفريق الأمة وإضعافها روحياً. فكانت المدرسة بذلك حصناً للعقيدة الصافية والفهم المستنير للإسلام، بعيداً عن التزمت والانحراف‪.‬‬
ولم يكتمل بناء الهوية دون غرس الروح الوطنية الصادقة. عملت مدرسة الهدى على تحقيق ذلك من خلال تعليم التاريخ الوطني، وتذكير الأجيال بأمجاد أسلافهم وتضحياتهم، وربطهم العاطفي والفكري بقضايا وطنهم المصيرية. كان الهدف هو إعداد جيل يعي ماضيه، ويدرك واقعه، ويستشرف مستقبله، ويشعر بالانتماء العميق لهذه الأرض وتاريخها‪.‬‬
وفي نهاية المطاف، تضافرت كل هذه الجهود التربوية لتحقيق الغاية الأسمى، وهي بناء الشخصية الجزائرية المتكاملة‪. ‬فلم يكن الهدف تخريج متعلمين فحسب، بل أفراد أسوياء يتحلون بالأخلاق الفاضلة والسلوك القويم. لقد سعت المدرسة لتنشئة أجيال واعية بمسؤولياتها، متدينة تدين الوسطية والاعتدال، محبة لوطنها أشد الحب، ومستعدة لخدمته والدفاع عنه‪.‬‬‬
صدى الشعر: محمد العيد آل خليفة يخلّد الصرح
لم يمر هذا الإنجاز التعليمي الوطني دون أن يجد صداه في وجدان الأمة، وتحديداً في شعر لسان حال جمعية العلماء، الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة. لقد خصّ مدرسة الهدى بالقنطرة بقصيدة خالدة، ألقيت في حفل توسيعها عام 1946؛ حيث أضيف لها قسمين آخرين لذلك هو يشير في قصيدته بقوله:”فتح جديد قد بدا” أي بعد الافتتاح السابق التأسيسي، وتعتبر وثيقة تاريخية وأدبية فريدة. والقصيدة استهلها بقوله‪:‬‬
فتح جديد قد بدا *** في فتح (مدرسة الهدى)
بشرى لقنطرة سمت *** ونمت شبابا رشدا
وفيها يمجد جهود المؤسسين، ويشيد بدور المدرسة في تنشئة “الأشبال” الذين سيصبحون “ضراغمة” الغد، ويربط بين جمال طبيعة القنطرة وصلابة أهلها، وبين النور الذي بثته المدرسة في مواجهة الظلام، كما يذكر رموز الجمعية مثل الشيخ عبد اللطيف سلطاني، والأمين (الشيخ لمين سلطاني)، والبشير الإبراهيمي، مما يؤكد الأهمية الكبرى التي أولتها الجمعية لهذا الصرح‪.‬‬
الإرث الباقي: الهدى كرمز للذاكرة الوطنية
واجهت مدرسة الهدى، كغيرها من مدارس الجمعية، تحديات جمة من قبل السلطات الاستعمارية، لكنها صمدت بفضل إيمان القائمين عليها وتضحياتهم، ودعم الأهالي الذين أدركوا قيمتها. لقد خرّجت أجيالاً ساهمت بفعالية في الحركة الوطنية والتحقوا بثورة التحرير المجيدة‪.‬‬
ويُلقي الأستاذ محمد بوكرش، الباحث المتخصص في تاريخ المنطقة، مزيداً من الضوء على البدايات الأولى لهذا الصرح التعليمي الوطني. يؤكد بوكرش أن تشييد مدرسة الهدى تَمَّ بجهود أهلية خالصة من خلال نظام ‪”‬التويزة‪”‬، وهو شكلٌ عريق من أشكال التكافل والتعاون المجتمعي المتجذر لدى سكان المنطقة، مما يعكس مدى الوعي المجتمعي والالتفاف الشعبي حول المشروع منذ نشأته. ويُضيف بوكرش معلومة توثيقية هامة، وهي أن أول رئيس لجمعية تسيير المدرسة كان المعلم الفاضل موسى بن حفيظ‪.‬‬‬‬
وتزداد الصورة التاريخية وضوحاً من خلال شهادة حية ينقلها الأستاذ بوكرش عن أحد تلاميذ المدرسة الأوائل، وهو السيد: عبد القادر شنقريحة (من مواليد 1923). يستحضر السيد شنقريحة في ذاكرته زيارة شخصيتين وطنيتين بارزتين للمدرسة في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وهما “فرحات عباس وبشير بومعزة”، مما يدل على الأهمية التي اكتسبتها المدرسة على الساحة الوطنية في وقت مبكر‪.‬‬
وتكشف شهادة شنقريحة أيضاً عن جانب محوري من صمود المدرسة وتحديها لواقع الاحتلال؛ حيث كانت، رغم أنف السلطات الفرنسية، تُدرّس كلاً من البنين والبنات معاً أسس اللغة العربية والقرآن الكريم ومبادئ الشريعة الإسلامية. وللتحايل على رقابة ومنع الاحتلال الفرنسي لهذا النوع من التعليم الهوياتي، كانت الدروس تُلقى سرّاً خلال الفترة المسائية، من الساعة الخامسة مساءً وحتى التاسعة ليلاً. ويأتي هذا في تناقض صارخ مع ما كان يفرضه النظام الاستعماري في مدارسه الرسمية خلال الفترة الصباحية، حيث كان التركيز منصباً على تدريس اللغة الفرنسية وتاريخ وجغرافيا فرنسا، في محاولة واضحة لفرنسة الأجيال وطمس معالم الشخصية الجزائرية الأصيلة‪.‬‬
اليوم، وبعد عقود من استرجاع السيادة الوطنية، تبقى مدرسة الهدى بالقنطرة رمزاً للصمود الثقافي، وشاهداً على عبقرية المشروع الإصلاحي لابن باديس ورفاقه. إنها ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل دعوة متجددة للأجيال الحالية للتمسك بقيم العلم والوطنية والهوية، واستلهام الدروس من تضحيات الأسلاف من أجل بناء مستقبل مشرق للجزائر. إن تذكر مدرسة الهدى هو تذكرٌ بأن التعليم الأصيل كان ولا يزال السلاح الأقوى في معركة بناء الأوطان والحفاظ على هويتها‪.‬‬

قصيدة محمد العيد آل خليفة في وصف مدرسة الهدى
فَتْحٌ جَدِيدٌ قَدْ بَدَا *** فِي فَتْحِ (مَدْرَسَةِ الهُدَى)‪
‬بُشْرَى لِقَنْطَرَةٍ سَمَتْ *** وَنَمَتْ شَبَاباً أَرْشَدَا‪
‬دَكُّوا إِلَى العَلْيَاءِ وَعْرَ *** طَرِيقِهَا فَتَمَهَّدَا‪
‬بِعَزِيمَةٍ تَدْلَى الأَشَمُّ *** لَهُمْ وَتُدْنِي الأَبْعَدَا‪
‬مَجْدٌ صَنَائِعُ سَادَةٍ *** مَا ضَاعَ مَا صَنَعُوا سُدَى‪
‬قَدْ لاَحَ مَخْطُوطاً عَلَى *** لَوْحِ الزَّمَانِ مُخَلَّدَا‪
‬مِنْ شَأْنِهِمْ وَلِنَشْئِهِمْ *** جِئْنَا نُدَشِّنُ مَعْهَدَا‪
‬(عَبْدُ اللَّطِيفِ) بِأُفْقِهِ الوَضَّاءِ *** أَمْسَى فَرْقَدَا‪
‬أَوْرَى الذَّكَاءَ القَنْطَرِيَّ *** بِعِلْمِهِ فَتَوَقَّدَا‪
‬وَسَقَى وَحَاطَ بِغَرْسِهِ *** نَبْعَ الصِّبَا فَتَصَعَّدَا‪
‬صَانَ البَنِينَ هُدًى وَبِالصِّنْوِ *** (الأَمِينِ) اسْتَنْجَدَا‪
‬مَا خَابَ مَنْ جَعَلَ (الأَمِينَ) *** لَهُ يَداً وَبِهِ اقْتَدَى‪
‬حَيِّ البَنِينَ بِمَعْهَدٍ *** حُرٍّ تَمَثَّلَ مَأْسَدَا‪
‬فَهُمُ الشُّبُولُ اليَوْمَ فِيهِ *** وَهُمْ ضَرَاغِمَةٌ غَدَا‪
‬وَلَهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَخْبَارٌ *** تَفُوقُ المُبْتَدَا‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى