محمد سعيد بوسعدية: كاتب حر
الجزء الثالث
تقليدا للدساتير العربية الأولى التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين، سارت الدساتير المغاربية الخمسة على نفس الوتيرة فيما يتعلق بدسترة مسائل الهوية من دين ولغة وانتماء. أكيد، تلتقي هذه الدساتير المغاربية في عدّة أطروحات هوياتية، غير أنها تختلف شكلا ومضمونا في بعض المسائل نكتشفها معا من خلال هذا المقال.
-3 الهوية في الدستور التونسي الراهن (2022)
تعتبر تونس أصغر بلد مغاربي من حيث المساحة، موقعه الجغرافي جعل منه بلدا متوسطيا أكثر منه إفريقيا، خاصة وأنه يفتقر للعمق القاري عكس جيرانيه: الجزائر وليبيا. وقد لعب هذا المعطى الجغرافي دورا تاريخيا في تحديد التركيبة السكانية للشعب التونسي ومنه عناصر الهوية. تعتبر تونس من جهة أخرى، حالة دستورية خاصة إن صح التعبير، فمن الناحية التاريخية تعتبر أول دولة عربية اهتدت إلى وضع دستور في سنة 1861. إذ من المفارقات التاريخية أنّ تونس كانت في هذه الفترة تحت الحكم العثماني، ومع ذلك سبقت الباب العالي في إصدار الدستور، إذ أول دستور عثماني مُقنن ظهر للوجود كان في سنة 1876. ونشير أن الدستور التونسي لم يدم العمل به إلا ثلاث سنوات، ويعتبر هذا الدستور في ظل الحماية الفرنسية، مرجعا فكريا للنضال والكفاح حتى أن تسمية بعض الأحزاب التونسية اقترنت به وعلى رأسها الحزب الحر الدستوري التونسي. وقد ظهرت قبل هذا الدستور وثيقة أساسية تحت تسمية عهد الأمان أعلنها محمد باي يوم 09 سبتمبر 1857، وقد اعتبرت هذه الوثيقة الدستورية تتويجا للإصلاحات التي قام بها سلفا أحمد باشا باي في الميادين العسكرية والاجتماعية والتعليمية من أجل تقليص الهوة الحضارية بين تونس والبلدان الأوروبية. كما نشير أن ديباجة دستور 2022 ذكرت دستور 1861، ووثيقة عهد الأمان، وأضافت إلى ذلك دستور قرطاج، وإعلان حقوق الراعي والرعية ووثيقة الميزان المعروف عند السكان بالزمام الأحمر لأن سفره كان أحمر اللون.
حاولت تونس المستقلة أيضا التحرر من التيارات البعثية-القومية والناصرية التي سادت العالم العربي خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان للزعيم الوطني لحبيب بورقيبة دورا في تقليص التأثير الشرقي على تونس سواء من التيارات القومية أو التيارات الإسلامية. لقد كان هدف السلطة التونسية هو تقريب البلد من أوروبا بدل المشرق، وجعل تونس بلد سياحي بامتياز لاستقطاب أفواج الأوروبيين وعملتهم الصعبة، ولن يتأتى للشعب التونسي ذلك إلا بنشر ثقافة التسامح وقبول الغير.
حاول خليفة بورقيبة، زين العابدين بن علي، السير على نهج الزعيم، لكن بروز التيارات الإسلامية في الثمانينيات بفعل الحرب الأفغانية-الروسية والصحوة الإسلامية، كان لها تأثيرا في كل المجتمعات العربية بما فيها تونس، ولم تمنع المقاربة الأمنية المتبعة من قبل السلطة من بروز التيارات الإسلامية المنادية بقيام دولة إسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية.
أحداث الربيع العربي التي انطلقت بثورة الياسمين في نهاية سنة 2010، كان لها هي الأخرى أثرا في بروز مطالب الهوية، حيث كانت الفرصة مواتية للتيار القومي-العربي وخاصة التيار الإسلامي لرفع المطالب المتعلقة على الخصوص بالانتماء العربي والإسلامي، وتجسيدها في الوثيقة الدستورية، بل ذهب التيار الإسلامي بزعامة حركة النهضة بعيدا في مطالبه الدستورية عندما اقترح إدراج الحكم المتعلق بجعل الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع. طبعا لم يبق التيار العلماني مكتوف الأيدي وراح يدافع هو الآخر عن مدنية الحكم وإبعاد فكرة الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في الدستور، كما حاول هذا التيار تمييع المطالب المتعلقة بالهوية وذلك باللجوء إلى مطالب خاصة بتاريخ تونس القرطاجي والأمازيغي قصد خلق توازن هوياتي مع التيار العروبي والإسلامي.
أخذ الرئيس قيس السعيد هذا الصراع بين القطب الإسلامي والقطب العلماني بعين الاعتبار في صياغة دستوره الجديد الذي أقترحه على الشعب التونسي للاستفتاء يوم 25 جويلية 2022، ونال أغلبية الأصوات (94.06 %) في مشاركة ضعيفة لم تتعد 27.45 بالمائة من الأصوات.
كيف عالج الرئيس قيس السعيد المسائل الهوياتية في الوثيقة الدستورية، ذلك ما نراه في قراءة عناصر الهوية في الدستور التونسي الراهن:
أ- في الديباجة
تجنبت الديباجة الخوض في مسائل الهوية، وأشارت فقط إلى انتماء الشعب التونسي للأمة العربية وحرصه على التمسك بالأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي، كما أكدت الديباجة على انتماء الشعب التونسي للقارة الإفريقية وهي التسمية التي تجد جذورها في التسمية التي كانت تطلق على الوطن تونس.
في صلب النص
– تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية؛
– تونس جزء من الأمة العربية واللغة الرسمية هي اللغة العربية؛
– الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير، تعمل على تحقيق وحدته في نطاق المصلحة المشتركة.
مقارنة مع الدستور 2014، نجد ديباجة هذا الأخير ثرية بمسائل الهوية، حيث جاءت على الشكل التالي:
– تعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال؛
– استلهاما من رصيدنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا؛
– ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقوّمات هويتنا العربية الإسلامية؛
– توثيقا لانتمائنا الثقافي والحضاري للأمّة العربية والإسلامية؛
– دعما للوحدة المغاربية باعتبارها خطوة نحو تحقيق الوحدة العربية، والتكامل مع الشعوب الإسلامية والشعوب الإفريقية.
أما على مستوى النص، فقد جاءت الأحكام المتعلقة بعناصر الهوية على المنوال التالي:
– تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها؛
– الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي، تعمل على تحقيق وحدته وتتخذ كافة التدابير لتجسيمها؛
– تعمل الدولة على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطني وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها والانفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات الإنسانية.
أما دستور 1959، نجد ديباجته مختصرة وخالية من الأحكام بصفة عامة. بينما اكتفى في صلب النص بالإشارة إلى أنّ الإسلام دين الدولة والعربية لغتها، وأن الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة.
ج- استنتاج
من تحليل أحكام دستور 2022 المتعلقة بالهوية، ومقارنتها مع دستوري 2014 و1959، يمكن استنتاج ما يلي:
– يعتبر دستور 2022 أول دستور عربي ينص على حكم الإسلام دين الدولة ويتراجع عنها. نشير أنه بخلاف ثلاثة دساتير عربية وهي لبنان وسوريا والسودان، باقي الدساتير العربية نصت على حكم الإسلام دين الدولة ولم تتراجع عنها في تعديل دساتيرها، حيث تعتبرها من المواد الصماء. هكذا تؤسس تونس لسابقة دستورية عربية بحذفها الإسلام دين الدولة؛
– عوض الإسلام دين الدولة، نص دستور 2022 على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية. وقد أثار هذا الحكم حملة من الانتقادات نظرا لتعويضه حفظ العقل بحفظ الحرية؛
– ولّى دستور 2014 أهمية كبيرة لمسألة الهوية مقارنة بدستوري 2022 و1959، خاصة هذا الأخير الذي أهمل قضية الهوية، واكتفى بإعلانات بسيطة تخص الإسلام كدين للدولة والعربية لغتها، إلى جانب الانتماء المغاربي؛
– كان للهوية الإسلامية الحيز الأكبر في دستور 2014، ففي الديباجة جاء ذكر لتعاليم الإسلام، والهوية العربية الإسلامية، والانتماء للأمة العربية والإسلامية. كما عمل صلب النص على ذكر، إلى جانب الإسلام دين الدولة والعربية لغتها، تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية. ويمكن تفسير ذلك بقوة التيار الإسلامي داخل المجلس التأسيسي المكلف بإعداد الدستور، حيث حازت حركة النهضة على نسبة مئوية معتبرة في انتخابات ذات المجلس مما سمح لها أن تكون قوة اقتراح عند إعداد الدستور؛
– نلاحظ أن الانتماء الإسلامي مقرون بالانتماء العربي في دستوري 2014 و2002، فالإسلام كدين مقرون بالعربية كلغة، والهوية الإسلامية مقرونة بالهوية العربية، وكذا الانتماء للأمة الإسلامية مرتبط بالانتماء للأمة العربية؛
– بخلاف العربية، لم يقر الدستور أي لغة ثانية كلغة رسمية أو حتى وطنية. يبدو أن التيار الأمازيغي ضعيف في تونس وليس له الحركية المجتمعية الموجودة بالجزائر والمغرب.