أقلام

مقاربات ورؤى.. المثقف النقدي والمثقف النقلي وما بينهما

حيدر الجراح

في الشورجة، أكبر الأسواق التجارية في العاصمة العراقية بغداد، وأكبرها قاطبة في العراق، وحين تسمع كلمة أستاذ فإنها تعني الحمار تحديدا، دون إضافات أو فذلكات.
لا يبعد سوق الشورجة كثيرا عن ساحة معروف الرصافي، وهو شاعر كبير ومعروف، إلا لدى أصحاب البسطات وعربات النقل الذين يتركونها تحت تمثاله بانتظار زبون لنقل بضائعه.
سوق الشورجة، وساحة الرصافي لا تبعد وخاصة الثانية إلا أمتارا قليلة عن شارع المتنبي، وهو شارع الكتاب والثقافة والمثقفين ، رغم الأمتار القليلة، إلا أنها وحسب راي الكاتب يمكن أن تكون سنين ضوئية تفصل المثقف عن مجتمعه، أو تنفصل بوظيفته التغييرية عن هذا المجتمع.. هل للمثقف مثل تلك الوظيفة، وهو يقطع تلك المسافة من الشورجة مرورا بالرصافي وانتهاء بالمتنبي، وهو يرى كل تلك الاختلالات الطافرة من الظلم وعدم العدالة والنهب والفساد والخراب، أم انه لا يراها وهو متجه الى صومعته الأثيرة، بسطيات الكتب، وما تحتويه من الدلالات الإبستمولوجيا في قصائد الشاعر فلان، أو أنطولوجيا ما بعد الحداثة في قصص الكاتب علان، أو انه يتمسك بوضع نظارته الشمسية على عيونه كي لا يرى حجم الفجيعة فوق شوارع تلك المسافة، التي تختزن الكثير من التواريخ والأحداث، والتي شكل أسلافه من السابقين ملامحها الثقافية؟.
كثيرا ما يطرح السؤال عن دور الثقافة والمثقف في تغيير مجتمعه، وهو الذي ساهم في تشكيل وتبلور هذه الثقافة، لكنه حين ينتبه ويقارن وضعه بمجتمعات أخرى، يشعر بالحاجة الى الثورة على تلك الثقافة التي تسيد مشهدها واصبح احد فرسانها. لكن الفشل دائما من نصيب هذا المثقف.
يرى كثيرون من المهتمين بالشأن الثقافي، أن هذا المثقف كان جزءا من حجر بناء ثقافة السلطة في بلده، واتكأ عليه الحكام كثيرا في الترويج لشرعية سلطاتهم، ظنا من هذا المثقف أنه يبني مجتمع العدالة والحرية، خاصة بعد قيام أنظمة حكم بعد الاستقلال حملت مثل تلك الشعارات.
كان المثقف جزءا من منظومة الحزب والسلطة، يضيف باحث أخر، تشكل في ظلها خاصة في فترة الستينات، لينسلخ عنها لاحقا، وعند البحث والتدقيق في المنظومات الفكرية لتلك الأحزاب، نجد أن أغلبها هي منظومات فكرية شمولية لاغية للآخر، حيث كانت كلها تستلهم النموذج السوفياتي لمفهوم الحزب، الذي يختصر في طليعة ثورية أو نخبة أو مجلس شورى، يفكر بدلا من الجماهير ويحكم باسمها.
لا وجود للمثقف النقدي في مجتمعاتنا، لأنه مثقف يتمرد على المألوف، العادي… وهو مشاكس، متمرد على كل السلطات، ومستقل، ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى جمهور الفقراء والمهمشين ويعمل على نشر قيم التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، على عكس المثقف التقني الذي يجرّد المعرفة من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي. فتتحول المعرفة الى نسق مغلق (أي المعرفة من أجل المعرفة) فتنتشر ثقافة اللاجدوى، العبث، اللامعقول، النخبوية والفردانية، وتكريس القطيعة مع الجمهور الذي يتحول عند التقني الى ضرورة منطقية، ذهنية، مجردة، فهو على عكس المثقف النقدي الذي يدافع عن الفقراء بناء على عاطفة مليئة بالحب والاحترام والثقة بقدرات هذا الجمهور. يضيف باحث أخر.
حول المثقف النقدي بتمرده على المألوف والعادي، والمتمرد على السلطات، والمنحاز الى الفقراء والمهمشين، والذي ينشر قيم التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، هنا يبرز سؤال هام هو: من هم المثقّفون؟ يصنفهم أحد الكتاب العرب بالشكل التالي:
المثقف الضرورة: وهو ذاك المثقف الذي يتبدل بتبدل الأحوال، يسير دائماً مع التيار، ويوجه ملكاته كلّها بحسب مصلحته الخاصة.
المثقف الحزبي: عندما ينتسب المثقف إلى حزب سياسي أو اجتماعي، لا يفقد المثقف صدقيته لكنه يفقد استقلالية كلمته وموقفه، وهو مضطر دائماً إلى الاصطفاف مع حزبه في مواقفه وتصريحاته.
المثقف المهاجر: واحد من كثر ممن وجدوا أنفسهم أمام جدار أصم في أوطانهم، وانفتحت لأفكارهم آفاق أوسع في المهجر فحملوا دفاترهم وأقلامهم إلى أماكن أملوا في أنها فضاء واسع، ومصدر حرية لكلماتهم، وساحة رحبة لرسم تصوّراتهم المستقبلية عن مجتمعاتهم وثقافتهم.
المثقف العاجي: هو مثقف ممتلئ بالمعلومات لكنه يعيش في برجه العاجي بعيداً عن مجتمعه وهمومه في بيئة خاصة يرسم بنفسه ويضع لها الحدود والأفق.
المثقف المقاول: هذا المثقف دوره البناء والتنظير الفكري على كل ما يحيط به، مثقف يأتي بأفكاره من الخارج ويعمل على جعلها تتناسب مع البيئة التي يعيش فيها، ويسوّقها ويروّج لها، ويسعى إلى استنساخ عدد من المثقفين مثله حتى يكونوا مرجعية ثقافية كبيرة ومؤثرة تساعد على استمرار هذا النمط من الأفكار والمفكرين.
المثقف الانتحاري: نوع من المثقفين يرفض الواقع الذي يوجد فيه، فيؤثر الانسحاب والتقوقع على الذات، بدلاً من الاستسلام للتأثيرات والضغوط الخارجية والمغريات التي تعرض عليه.
المثقف الشاعري: شاعر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حالم، يحب الأطفال، ويعشق الزهور، مغرم بالشموع، يغرق في عالم الأدب، يتنقل من تقاليد الشوارع الخلفية إلى صالونات الفكر والشعر.
المثقف القاضي: مثقف كل العصور والدهور، حاكم في كل القضايا، وناقد في كل العلوم والفنون بما في ذلك فنون النقد والكيمياء والطاقة والكواكب والجينات والعقائد والأرحام والطبخ… إلخ. وقد تتحول كل الأمكنة إلى قاعة محكمة الرصيف، الباص، المحطة ، الحديقة والشارع .
المثقف الدهّان: يقال عنه في اللغة العامية مسّاح جوخ ، مدّاح للآخرين، مستعد للتنازل في أية لحظة عن كل قطرات الحياء لأجل الربح والجاه، والشهرة والمركز المرموق، إذا لم يجد سلطة يمدحها، يمدح رئيس التحرير، صاحب الدكان المجاور، الممرضة في المشفى، شرطي المرور، ولا يقدم المديح بدون تبرير فلسفي، نقدي، علمي، عقائدي، وثقافي… إلخ.
المثقف النقدي: من ظلّ وفيّاً لوظيفته النقدية من دون أن ينحاز إلى فئة أو حزب، واستمر مصرّاً على ضرورة تغيير الواقع، ومؤمناً بأن حالة الوعي ليست صلبة ومتحجّرة، بل في حالة حراك وترقٍّ دائمين. فكل وعي يولّد وعياً جديداً، وكل واقع راهن يولّد واقعاً جديداً أفضل.
ويمكن أن أضيف الى تلك الأصناف صنفا أخر من المثقفين يتسيد الساحة الثقافية في العراق وغيره من البلدان العربية، ويكثر من الظهور في القنوات الفضائية وبرامجها الحوارية، وفي الملتقيات والندوات الثقافية وحتى المتخصصة، وهو المثقف النقلي، الذي تنحصر وظيفته في تداول ما يسمعه في نشرات الأخبار، أو ما يسمعه من مثقفين يشبهونه على قنوات أخرى، دون مساءلة أو تحليل لما يسمعه أو يقوم بنقله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى