أقلام

مقاربات و أحداث.. فكرة النصر والهزيمة في الوعي أولا


إن النصر الذي تنشده الجيوش في المعارك والدول في العلاقات والشعوب في الحياة والأفراد في مساراتهم المعاشية والأنبياء والمصلحين في دعواتهم دوما يأتي كجائزة بعد عمل مضني وجهد مبذول وتحمل للصعوبات والمشاق والتضحيات
ولذالك نقول العبارة الشهيرة في جو مشوب بالبهجة والسعادة “لقد تكللت المعركة بالانتصار.” .وتقام من اجل ذلك الاحتفالات والولائم وقد يتحول ذلك اليوم الذي بدأت فبه المعركة أو انتهت عيد وتاريخ يحتفى به كل سنة ومحطة لتذكر النصر والمجد ومن هنا نجد إن الشعوب تؤرخ بانتصاراتها ولا تؤرخ بهزائمها وانكساراتها والنصر إن كان لطرف فهو في نفس الوقت هزيمة لطرف أخر ولكن المتأمل في التاريخ دوما أن المنتصر لا يحقق ذألك ألا بعد إن ذاق مرارة الهزيمة وعانى أثارها السلبية على المجتمعات والنفوس
إن الذي يصنع وعي الأفراد والجماعات ويشكله ليست الانتصارات دوما وإنما الهزائم ولكن إن تم التعامل معها بوعي وتبصر. فمثلما تتحول الأخطاء مصدر للتعلم الناجح كما توكد نظرية التعلم عن طريق الخطأ في علم النفس التربوي وفق الشروط معينة أهمها امتلاك إرادة ورغبة التعلم فانه أيضا كثير ما تتحول الهزيمة الى دافع قوي من اجل تحقيق الانتصار ولكن بشرط ممارسة تفكيك موضوعي لعوامل الضعف والخلل التي أدت الى الهزيمة …

الوعي بالهزيمة بداية النصر

لقد شعر اليابانيون الذين كانوا كلهم إقدام وشجاعة في الحرب العالمية الثانية بعدما رميت القنبلة الذرية علي مدينتا هيروشيما ونڨازاكي بهزيمة بالغة لهول الدمار والقتل الذي أحدثته هاتين القنبلتين وشاهدو بنفوس منكسرة ودموع منهمرة انكسار وهوان إمبراطورهم المقدس وهوو
يمضي على أوراق الاستسلام وشهدوا في نفس الوقت انتحار جنرالاتهم وبعض قادة جيشهم لمحو عار الهزيمة ..انهها أيام انكسار لنفسية الياباني ومرارة لم يذقها شعب البيان طيلة تاريخه .ولكن معجزة الياباني هو في وعيه بالهزيمة وقدرته على استثمار النفوس الجريحة والغضبانة الى نفوس تعمل وتكد وتجد وتتعلم وأدرك المثقفين اليابانيين وأيضا شعبهم أن السبب العميق في هزيمتهم لم يكن ابدأ نقص في عدد الجنود أو نقص في الأيمان الانتماء للوطن وإنما ضعف وتأخر في العلم والعمل والتفوق وفي عدم امتلاك العلم التجريبي الذي صنع القنبلة النووية والطائرات القوية والبواخر العملاقة ..
كما أنهم تفهموا أيضا إن النصر ليس دايما ذا مفهوم عسكري فهناك ميادين متعددة للانتصار وهي إن تكون اليابان دولة قوية في اقتصادها وفي صناعتها وفي علومها لذ لك استثمرت في “الإنسان” الذي استطاع في مدة قصيرة جدا أن يبني ما سمي حينها بالمعجزة اليابانية .
لقد رصد مالك بن نبي هذه الحالة المميزة الفارقة في كتابه “شروط النهضة” وقارن بين الشعب الياباني. والشعوب العربية الإسلامية فكلاهما تعرض للانحطاط و للاحتلال والهزيمة ولكن موقف الياباني كان موقف التلميذ الذكي الذي يتعلم من أخطائه وهزائمه أما موقف العربي فكان موقف التلميذ الغبي الذي لم يستوعب ابدأ أخطاؤه ولم يتعلم منها ومفهوم ذلك أن الياباني لم يتخل أبدا عن هويته وتقاليده وثقافته ولكن بدون تقديس احمق فاخذ ما يحتاجه من علوم تجريبية وفنون تقنية وصناعية ليتوج كل ذلك بان أصبحت منتجاته الصناعية من أجهزة إلكترونية وسيارات والات حفر وحافلات تغزو كل أسواق العالم وكذلك الهند وكثير من الشعوب في العالم حيث بعد رصد عوامل الهزيمة في الوعي والنفوس الواهنة عملوا على تجاوز الوهن والضعف والجهل من خلال مخططات عملية وتربوية لتربية الوعي الفعال والإيجابي وتنمية الإرادة وشحذ الهمم والعمل بجد على اكتساب عناصر القوة من خلال العلم والعمل الدؤوب لأحداث التغيير في الإنسان والميدان ..
ذلك أن الهزيمة حتى في كل المعارك العسكرية تبدأ بالانهزام النفسي فعندما تشل الإرادة الجماعية وتضمحل الرغبة العامة ويحل الخوار والوهن حيث ينطفئ وهج الأمل ويقل العمل…
إن بعض الانتصارات عندما لا تتوافق مع اللحظة التاريخية الفارقة والمفصلية في حركة تاريخ شعب ما تكون سدى وعندما لا يعي هذا الشعب آليات استثمارها والحفاظ على فاعليتها. يتحول النصر الى مخدر يبعث على التراخي والكسل والعيش على وهم أمجاد الماضي وبطولاته فيبقى بذلك رهينة له فيحصل الجمود والتخلف وعندما يتعرض الى نكسة يدرك أن التاريخ ليس ساكنا وإنما متغير دوما وفق منطقه وعقله
لقد تنبه رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وطه حسين واحمد امجن والى كثير من رواد باعثي النهضة العربية الى التأثير السلبي لمثل هذه المعنى
إن كثير من أحداث النصر عندما لا تدرك الأجيال ونخبها الفكرية والسياسية إن ثمن الحفاظ عليه اكبر واشد من تمن تحقيقه يتحول الى بداية للتلاشي والاضمحلال ومن هنا تبدا الهزائم،ولذالك يعطي فلاسفة التاريخ والحضارات مقاييس مختلفة لمعاني النصر والهزيمة غير تلك المفاهيم الساذجة و الشائعة بين الناس أنها مرتبطة أساسا بوعي الشعوب وبعدها الثقافي والحضاري من مبدا “إن ليس وجود الناس هو الذي يحدد وعيهم وإنما وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ” فقد انتصرت العساكر الجرمانية البربرية على الجيوش اليونانية ولكنها ما فتئت إن تبنت الثقافة والحضارة اليونانية لان جيوش بلاوعي متميز وفعال
كما إن جحافل التتار الهمجية البدائية تغلبت على الجيوش الإسلامية وأسقطت الخلافة في بغداد لكن ما فتئ التتار إن تحول كثير منهم الى الإسلام وتبني الحضارة الإسلامية وقيمها في الحياة والسلوك .
وعلبه فان النصر والهزيمة تبدأ في الوعي أولا. فالغلبة العسكرية قد تؤسس سلطانا وحكما سياسبا متغلبا لكنها لا تؤسس فكرا و حضارة وثقافة فعندما تكون الأمة محصنة دينيا ومتمسكة بهويتها الحضارية والثقافية قد تتعرض لنكسات وهزائم عسكرية كبيرة الى حد ذهاب سلطانها وسيادتها على شؤونها المادية فإنها إن كانت تملك القدرة الروحية والثقافية التي تبعثها على النهوض من جديد .فإنها لن تهزم أبدا لقد هزمت الجزائر عسكريا وتعرضت لاستعمار فرنسي صليبي حاقد و بغيض دمر الأرض وهتك العرض وحارب بهوادة وعنصرية الخصوصية والهوية الحضارية لمدة قرن ونصف من التاريخ. ولكن الأمة العميقة لم تستسلم مطلقا فقاومت بكل أشكال المقاومة وإن تغلبت فرنسا على كل المقاومات حتى توهمت إن الأمر قد استقر لها لكنها لم تستطيع إن تهزم وعي الأمة وتراثها ودينها ولم يتصور الجزائري أبدا “انه منهزم” وإنما هي جولات في صراع الحق والباطل. وحيث كان يؤمن إيمان مطلق وعميق بأن النصر دوما هو الحق وسيكون حليفه لأنه هو صاحب الحق والفرنسي مجرد مغتصب وظالم ومعتدي .
كانت كلما تندلع مقاومة بعدما تنطفي شعلة مقاومة تشعر فرنسا الاستعمارية إن نصرها لم يكن شاملا وان هزبمة الشعب الجزائري لم تتحقق فخططت ودبرت الى أن هزيمة الشعب الجزائري يجب أن تكون في “وعيه بتاريخه وبدينه الإسلامي وبلغته العربية وبتميزه الحضاري الذي يشكل شعورة “كما قال احد السياسيين الاستعماريون في مخططه ولذلك عملت على تجهيله وتجفيف منابع تعلمه للغته العربية وإحلال الفرنسية وفتح المجال للتبشير بالمسيحية وبالحياة المدنية المتحضرة زعما فبنت الكنائس في جميع ربوع الوطن و بعض المدارس لتعليم الثقافة واللغة الفرنسية وراحت تشكك في حقيقة وجود (الأمة )بإثارة الشكوك في الانتماء التاريخي وتمون البعثات للبحث عن أصول الجزائريين ذلك لتقطيع عرى الوحدة في النفوس والعقول والمعتقد فيتسنى لها بذلك التفرقة وبث الاختلاف .
بمعنى أنها تريد أن تحصل على نصر كامل ذلك لا يتحقق إلا بهزيمة الجزائريين في وعيهم ولكن لم يتحقق لها ذلك فكان اندلاع الحركة الوطنية التي تطالب بحقوق الجزائريين في وطنهم وفي لغتهم وثقافتهم ودينهم وتراثهم هي بداية النصر والمعركة والثورة على مستوى الوعي حيث توجت بثورة عنيفة تكللت بالانتصار والاستقلال والحرية .أن استمرار المقاومة نصر مهما كانت التضحيات .

مفهوم النصر لدى المقاومين

إن نصر المقاومة أو هزيمتها ليس نصر عسكريا وإنما نصرا في استمرار النفوس والوعي بالقضية وبالحقوق الإنسانية الطبيعية في الحرية والحياة الكريمة وعدم الخضوع للقوة الغاصبة مهما كانت فضيعة ومتغلبة .
إن بعض المحللين المرتزقة ورجال الدين المتآمرين الذين يعبدون أهواء ولاة أمورهم السياسية المتصهينة اليوم يشككون في انتصار المقاومة في غزة مثلما شككوا سابقا في انتصار ثورات الشعوب المتحررة دوما من منطلق قياس خسائر والمفاسد الأرواح والمباني ولا يعتبرون بالمآلات والمقاصد التي يفرضها عقل التاريخ في تحركه نحو المستقبل .
إن ما حققته مثلا مقاومة أهل غزة على المستوى العالمي من تغير في الوعي والضمير. العالمي وخاصة الغربي الذي اكتشف انه كان أعمى وما بعثته من شكوك في مفاهيم كانت تبدو يقينية في وحدة مفهوم الإنسانية وحقوق الإنسان والعدل الدولي وفي ازدواجية المعايير الدولية لدى النظام الغربي وفي سيطرة قانون القوة والصهيونية المتحالفة مع الشركات العالمية الضخمة في الأعلام والاقتصاد لم تحققه أطنان من الكتب والبحوث والمقالات والخطابات والدعوات لأكثر من نصف قرن من الوقت الى درجة إن يصرح احد المثقفين ومن اليهود في جامعات أمريكا “إن غزة لم تكشف فقط أنها هي من تخضع للسيطرة الصهيونية وإنما نحن أيضا في الغرب نفتقد حريتنا”
ويقول أحد المحللين الصينيين الكبار “ إن موقف ترامب من التكتكtiktok ليس لأنه موقع صيني وإنما لأنه موقع كشف الوجه البشع للصهيونية وللغرب وأمريكا في التعصب والانحياز زوفي ازدواجية وكذب وزيف التشدق بالحريات والديموقراطية الغربية وهذا ما لا تقبله أمريكا والإمبريالية ”
يقول هيغل الألماني ” إن التاريخ هو جسد الوعي “ بمعنى إن الوعي هو الذين يصنع حياتهم وعليه فان النصر والهزيمة مسالة وعي متفاعل أو متكلس وجامد قبل إن تكون معارك عسكرية.
ياويح أمة هزمت في وعيها وشعورها بهويتها ورسالتها. فمهما تملكت من قوة عسكرية لن تحقق النصر!

سراي مسعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى