
إن أحد مقاييس الأمم في وجود سكة التقدم على الطريق الصحيح أم لا، هو الأسئلة التي تطرحها نخبتها المثقفة والإشكاليات العلمية والفكرية التي هي مناط البحث في جامعاتها ومعاهدها والحوارات الدائرة في وسائلها الإعلامية ونواديها الاجتماعية .
والمتأمل لحالنا يصاب بالعجب من هول التفاهة والسذاجة والسطحية والبلادة التي تتصف بها أسئلتنا الإشكالية وحواراتنا والتي كلها خارج الزمان والواقع ٠٠ أيعقل أن تكون ثقافتنا بهذا التخلف والتراجعية؟! أيعقل في عصر العلمية والتقدم الهائل أن لا تخرج اهتماماتنا عن دائرة التكرارية وشرح المشروح وبسط المبسوط؟! والأغرب أن مبادرات الحوار عوض أن تولدها المؤسسات العلمية والفكرية التي شغلتها البحث والتفكير أو النخب التي مهمتها التساؤل والتفكير، وبث ثقافة الحوار وتفعيلها عبر الكتاب والنوادي،لتدفع فئات المجتمع المختلفة التي التحاور في وضعياته المختلفة والمتجددة من خلال الفضاءات السياسية والاجتماعية نجد أن السلطة هي دوما من تبادر وتفعل وتؤسس وتحاول أن تحول الحوار من مجرد حوار غير مثمر يشتغل على دوائر الاختلاف لإحداث المزيد من الانقسام والوهن إلى حوار مثمر وواقعي لاشتغاله بتحسين الأوضاع المتعلقة بحياة المواطن واستحقاقات “مواطنته” في بلده المستقل والحر وترقية مواهبه وإمكانياته الجسدية والفكرية وحتى الروحية
إن متابعة متأملة لمختلف مجالس الحوار ومنتدياته على مستوى النخبة وما يطلع علينا من خلال الشاشات والتجمعات الجامعية يصاب بالدهشة لما يوجد من تباعد بين اهتمامات وتطلعات المجتمع ومقاصده. وما يطرحه هؤلاء. من أفكار وآراء وعناوين بحث ووسائل مؤتمرات وتجمعات يبدو أنها موغلة في العموميات والتفكير في اللا مفيد أي في غير المجدي والنافع، نخب منفصلة تماما عن الواقع إلى درجة يتحول فيها الثابت إلى متغير والمتغير إلى ثابت وأنه لأمر محير، هذا الانفصام الهائل بين النخب المفكرة والمجتمع الحي المتحرك المنفعل والفعال في الحياة، وهذا كله لا شك لغياب الحوار وتفعيلة بين المؤسسات والمجتمع وبين القائد والمقود. لقد هالني كم الاختلاف بين بعض النخب المختلفة أيديولوجيا في إعادة طرح نفس المواقف ومن نفس الأحداث والمواسم ومن نفس الإشكاليات المتعلقة بالمجتمع والتنمية ومشكلات الحياة وكأنه لا حوار بينهم ومع أنساقهم الفكرية، وبتتابع رغم مرور الأزمنة ودوما يفضي إلى التراشق بالسباب والاتهام والحكم على عقائد الناس بقراءة النوايا قبل النظر في الأفعال
إن الاختلاف أمر محمود عندما يكون دافعا لمزيد من التفكير ومزيد من الحوار ذلك كلما كان الحوار مختلفا كان عميقا لكن الاختلاف من أجل الاختلاف ودون حوار يتسم بالقدرة على أن ننتبه لما يقوله غيرنا ونفهمه يتحول إلى عامل هدم وفشل وأكبر معيقات حواراتنا الطرشاء هي ان لا نبرر ولا نتعقل وجوب الاختلاف فيما نعتقده وما نتصوره من أساليب حياة.
فعالية الحوار للمجتمع المدني
لا شك في أن مبادرة المجتمع المدني كمؤسسة لم تطرح لا بعدما تبين فشل الأحزاب السياسية الكثيرة والمختلفة في تأطير المجتمع فهذا الأخير لم يكن يأبه أبدا لما تقول ولما تفعل ولم يحس أبدا أنها تعكس تطلعاته وآماله ولذلك نفوره منها كان مفهوم ولذلك اتجه المجتمع إلى تأطير نفسه في تجمعات مدنية تقدم الخدمة التي يحتاجها في حياته الروحية والمادية المعاشية وحتى الحقوقية التي يقرها الدستور والقانون وبعيدة كلية على الخطاب السياسي المناسباتي الذي ينهض شهرا وتنام سنوات.
وشعرت الدولة وهي صادقة أيضا بأهمية المرافقة والاستماع له والحوار معه، والتشارك معه في التفكير والحل وهو نوع من الديمقراطية التشاركية لإحداث التنمية الاجتماعية، والاقتصادية الناجحة.. وهذا ما طرح مؤخر في تجمع المجتمع المدني ومن خلال جلسات المنتدى الوطني للمجتمع المدني تحت عنوان (الحوار والديموقراطية التشاركية ،ودوره في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والمحلية) على وجوب تعزيز أسس الحوار والتشاور والتبادل بين فعاليات المجتمع المدني والمؤسسات، وهو لا شك أمر جد إيجابي قد يساهم في بلورة موضوعية للمشاكل وحلولها سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي وأن يكون محل اهتمام خاص في برنامج رئيس الجمهورية والدولة، ليتعزز بتوفير كل الوسائل الفعالة ماديا ومعنويا واهتماما، فذلك أمر أيضا سيساهم في تحقيق الأهداف المتوخاة منه، ولكن قبل المستوى الاقتصادي والاجتماعي وارتباطهما الوثيق ببعضهما البعض فإن هذا التحقق لا يمكن يكون فعالا إن لم يكن هناك حوار فكري عميق ومسؤول وجاد ذلك أن مشكلات الحضارة في تحققها وتشييدها منطلقها مشروعا فكريا، وحضاريا، واعيا ومتبصرا بعيوبه ،وعثراته وأزماته وهي مسؤولية النخب المفكرة والمنتجة للأفكار
ذلك أن في الحقيقة كثيرا من المعاناة والفشل في تحقيق النجاح لأي مشروع حتى لو كان ذا بعد سياسي هو غياب الحوار أو نقصه ولكن الحوار ليس تصنعا أو غاية في ذاته إن لم يكن سلوك حضاري نكتسبه وقيمة تربوية تتلقفها الأجيال عن طريق التربية والتوعية وممارسة يتم التمرن عليها الأفراد والجماعات.. ينعكس أداؤها عمليا في الحياة الفردية والجماعية للفرد، والمؤسسة مهما كان نوعها.
لقد تبين في “أزمة كورونا” خاصة وحرائق الغابات في فصل الصيف لمرتين التي هددت صحية وحياة المجتمع الجزائري فعالية المجتمع المدني في التجنيد والمساهمة في التنمية وخاصة في مجابهة الأخطار العظيمة من خلال جمعيات مدنية جمعت الأموال والمواد وزودت المستشفيات بآلات الأكسجين والأدوية ،والعائلات المحتاجة وهبت كل الجمعيات محلية وولائية ووطنية وفي كل التراب الوطني للمساعدة والتضامن وتخفيف الأعباء عن السلطة التي لم تتوان في كل مرة على الافتخار بهذه الهبة التضامنية والعمل الفعال.
الحوار تبادل معرفة وحضارة
إن الحوار كسلوك هو في الحقيقة المعرفية منهجية تبادل للمعرفة والخبرة والتجربة بين الأفراد مهما كانت متواضعة حول قضية ما هي محطة اهتمام من الجميع. وعليه فهو خاصية تميز المجتمعات الحية والمتقدمة إلى وصلت لدرجة جيدة من الوعي والتفكير.
ذلك أن غياب الحوار هو بالضرورة حضور للارتجال والعنف والاعتباطية مما يعني بكلمة واحدة الفشل في أي شيء
لقد أدرك الفيلسوف “روجي غارودي” هذه الحقيقة بحيث تبين له أن سوء الفهم الناتج بين المجموعات البشرية المختلفة ثقافيا وحضاريا ناتجا عن غياب الحوار بين الحضارات لذلك كتب كتابه (حوار الحضارات) معاتبا نفسه والحضارة الغربية على الجهل الكبير والكبرياء المتغطرسة لاعتبار تصورها ورؤيتها للتاريخ والإنسان والفكر والحياة هي اليقين المطلق ليقررا هناك أنساقا حضارية أخرى في الشرق والغرب لا بد من محاورتها ومعرفتها وأن المجتمع الإنساني لا يمكن إن يكون إنسانيا إلا بحوار جاد وحقيقي بين حضاراته.
ان لغة الحوار تعني أن يتشارك الناس والمجتمعات بينهم آراؤهم ومعارفهم وتجاربهم وخبراتهم في المعرفة والحياة وأيضا تعثرهم وفشلهم ونجاحاتهم، فأي مسيرة حياة فرد أو جماعة أو مؤسسة هي قصة لا بد من أن نستمع لها أو فصل حياة لا بد من معرفة تفاصيله، إنه مثلما اعتمد الحكماء والأنبياء قديما الحوار مع الناس في تعليمهم، وتقديم النصح لهم وعضتهم حتى يميزوا خيط الحق والحقيقة والإيمان من كبة الأكاذيب والباطل والشرك فإن العيش بين المختلفين من الناس في آرائهم وتصوراتهم وأفكارهم لا يكون في حالة من السلم. والأمن والتسامح إلا من خلال الحوار.
وقد قبل قديما أن انتقال الشعوب من حالة التوحش والبدائية إلى حالة من التجمع والمدنية لم تتحقق إلا بالحوار الذي نتج عنه التفاهم والتسامح وتبادل الخبرات ولا يتم ذلك طبعا إلا من خلال الحوار، كما أنه لم ينته فصل التوحش والصراع إلا بتعلم الإنسان لغة الحوار، التي من معانيها تبادل المنافع المحققة للحياة.
إن الحوار حالة من التمدن وصفة أساسية في البناء الحضاري الذي تنشده أي دولة تسعى إلى أن تكون متماسكة وقوية ومهابة الجانب لأنه عامل وحدة لها وكما أن في الاتحاد قوة وفي الاختلاف ضعف قد يؤدي إلى الزوال فإنه أيضا في الحوار قوة وتماسك ووحدة فإن في انعدامه تنافر واختلاف وتلاش للجهود والقوة،ولذلك نجد كل المفكرين والفلاسفة والمصلحين عبر تاريخ الإنسانية يجعلون الحوار خلة أخلاقية وخاصية للعقلاء وعنوان للحكمة ونصيحة يعض بها الأنبياء المؤمنين أن تكون منهجهم في الحياة وهل الحياة إلا سجل حوارات بين البشر أفراد وجماعات وانساق حضارية.
سراي مسعود