أقلام

ملتقى أعلام الإصلاح بغرداية

استلهام من الماضي لبناء المستقبل

عبد المجيد رمضان
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه مجتمعاتنا، يبرز الفكر الإصلاحي كرافد أساسي لإعادة بناء الوعي الحضاري وترسيخ القيم الدينية والاجتماعية. ويأتي ملتقى أعلام الإصلاح في طبعته السادسة بغرداية ليعيد تسليط الضوء على الإرث الفكري العميق لرواد الإصلاح في الجزائر، ودورهم المحوري في نهضة الهيئات الدينية والمؤسسات العلمية والتربوية والاجتماعية.
هذه التظاهرة العلمية تهدف إلى إبراز إسهامات الفكر الإصلاحي ودوره في معالجة قضايا الأمة، وتعزيز الهوية الوطنية في مواجهة التحديات الفكرية والثقافية المتجددة. انطلقت أشغالها الخميس الماضي، وتتواصل على مدى أسبوع كامل.بدأت فعالياتها بجلسة افتتاحية شهدت إلقاء كلمات بداية برئيس جمعية الإصلاح علي بن إبراهيم نجار، فأحمد بن بنوح مصباح باسم حلقة العزابة، وعمر حكيمي رئيس اللجنة العلمية للملتقى، فكلمة مصطفى بن صالح باجو رئيس مجلس الشيخ عمي سعيد ، ثم الأمين العام للولاية نيابة عن السلطات المحلية، وعمر بافولولو مستشاروزير الشؤون الدينية والأوقاف، عمر بن محمد سوفغالم رئيس أعيان قصر غرداية باسم الهيئات العرفية، الأمين العام للمرصد الوطني للمجتمع المدني، بن عودة حيرش نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، محمد بن عيسى فخار رئيس جمعية الوفاء وعضو إدارة جمعية الإصلاح، وأخيرا محمد بن إبراهيم بشيش رئيس حلقة عزابة جمعية الإصلاح الذي أعلن عن الافتتاح الرسمي للملتقى.

الجلسات العلمية

تشمل أعمال الملتقى خمس جلسات علمية تتناول قضايا جوهرية متنوعة، يشارك فيها أساتذة جامعيون وباحثون. تستعرض الجلسة الأولى نشأة الحركة الإصلاحية ومسارها، وتتطرق إلى موضوعات تتعلق بمقومات النهضة في فكر أعلام الإصلاح بغرداية، ودور الحركة الإصلاحية في وادي مزاب كمشروع مجتمعي بين إنجازات الماضي وتحديات الحاضر، وأثر الرحلات العلمية في دعم هذه الحركة. أما الجلسة الثانية، فتركز على الجهود الدعوية والتربوية والوطنية لأعلام الفكر الإصلاحي بغرداية ومزاب، من خلال مناقشة النشاط التربوي والاجتماعي لجمعية الإصلاح، واستعراض محطات من تاريخ الحركة الإصلاحية بوادي مزاب خلال الاحتلال الفرنسي، مع تسليط الضوء على مركزية الدعوة وقضايا الأمة في فكر مشايخ الإصلاح، مثل الشيخ الحاج عمر الشيخ صالح‪.‬‬
وفي الجلسة الثالثة، يتم تسليط الضوء على الإسهامات العلمية والأدبية والاجتماعية لأعلام الحركة الإصلاحية بغرداية. تتضمن هذه الجلسة قراءة بيبليوغرافية للإنتاج العلمي لمشايخ الإصلاح مع نماذج مختارة، وجهودهم في خدمة اللغة العربية، إضافة إلى مناقشة القضايا الاجتماعية كما عالجها خطاب أعلام الإصلاح، مع نموذج الشيخ حمو فخار.
الجلسة الرابعة تخصص للإسهامات الفكرية والفقهية لأعلام الإصلاح، حيث تناولت الإسهام الفقهي للشيخ أحمد أوبكة كنموذج، وجهود ندواته في الفقه والفتوى، إلى جانب مناقشة مؤلفات الأستاذ بكير أعوشت، واهتمامه بالفكر الإباضي وقضايا الأمة الإسلامية‪.‬‬
تختتم أعمال الملتقى بجلسة خامسة تتمحورحول مواجهة الفكر الإصلاحي للتطرف ودعاوى الانحلال، حيث تقدم مداخلات تتناول مقاربات نقدية للفكر الإصلاحي في مواجهة التيارات الفكرية الغربية، مع إبراز قيمة الوسطية في فكر أعلام الإصلاح وأبعادها الفكرية والاجتماعية. كما يتم استعراض دور المدارس الحرة في الحفاظ على المرجعية الفكرية والدينية.
ويمثّل الملتقى منصة حوارية ونقاشية ثرية تعكس عمق الفكر الإصلاحي ودوره في معالجة تحديات الواقع، وتأكيد حضوره كقوة دافعة للنهضة العلمية والاجتماعية في الجزائر‪.‬‬
الدروس المسجدية
يشهد الملتقى إلى جانب الجلسات العلمية، تنظيم سلسلة من الدروس المسجدية اليومية التي تُلقى بمركب الإصلاح الشيخ بابا السعد بعد صلاة المغرب، متناولة موضوعات متنوعة تبيّن إسهامات جمعية الإصلاح بغرداية وأعلامها. تستعرض هذه الدروس ظروف نشأة الجمعية في ظل تحديات الاحتلال الفرنسي، حيث ظهرت كحركة إصلاحية تسعى للحفاظ على الهوية الإسلامية ومواجهة محاولات الاستعمار طمس الثقافة الوطنية. كما تتناول الجهود التي بذلتها الجمعية في مجال التعليم الحر الخيري، من خلال إنشاء مدارس هدفت إلى توفير تعليم مجاني، ما ساهم في بناء جيل متعلم وواعٍ رغم الظروف القاسية. وفي المجالين الديني والاجتماعي، تُبرز الدروس إسهامات الجمعية في تنشيط الحياة الدينية والتصدي للمشكلات الاجتماعية، فضلاً عن دعم الفئات الضعيفة وتعزيز روح التضامن الإنساني‪.‬‬
وتُركز المحاضرات أيضًا على الدور الحيوي الذي قامت به الجمعية في مرافقة الشباب عبر تقديم برامج تربوية وثقافية ورياضية ساهمت في تأهيلهم ليكونوا قادة المستقبل وحماة القيم الوطنية. كما تبرز اهتمام الجمعية بالمجتمع النسوي، من خلال توجيه المرأة وتمكينها من أداء دورها في بناء الأسرة والمجتمع. ولم تغفل الدروس المبرمجة إسهامات أعلام الإصلاح في الحركة الوطنية والنضال الثوري ضد الاستعمار، حيث برزت أفكارهم الإصلاحية كأحد أعمدة التوعية الوطنية ودعائم الحركة الوطنية والثورة التحريرية المباركة.
ومن القضايا التي تحظى بالاهتمام أيضا، القضية الفلسطينية التي شكلت محورًا مهما في خطاب الحركة الإصلاحية بمزاب، حيث ركزت على تعزيز الوعي بأهميتها وحشد الدعم لها. وتُختتم الدروس بتسليط الضوء على دور الهيئات العرفية والمؤسسات الخيرية كركائز أساسية للمجتمع، مع التأكيد على واجب الأمة في دعمها لضمان استمرارية العمل الإصلاحي وتعزيز أثره في مختلف المجالات.

الأنشطة الثقافية والرياضية

تمتزج الأنشطة العلمية بأمسيات شعرية يبدع خلالها نخبة من شعراء المنطقة باللغتين العربية والأمازيغية، منهم إبراهيم فخار، عمر بوسعدة، مسعود الجعدي، وعبد الوهاب فخار، صالح ترشين، سليمان ذواق، ومسعود خرازي، ويوسف لعساكر، مما يضفى على أجواء الملتقى لمسة أدبية راقية. كما تحيى حفلات فنية وأدبية وثقافية من تنظيم شباب عشائر قصر غرداية، ولجنة الأفراح التابعة لجمعية الإصلاح، وشباب معهد الإصلاح الثانوي، بمشاركة فرقة “إمطاون ن الفرح” وكشافة مقاطعة أفواج الإصلاح، ونادي “نجوم التمثيل”، لتتنوع الفعاليات بين الأصالة والترفيه الهادف‪.‬‬
وقد استهلت أيام الملتقى بمعرض شامل مفتوح للجمهور حول تاريخ وسيرة وجهود أعلام جمعية الإصلاح، تخصص فتراته الصباحية للنساء والمسائية للرجال، إلى جانب نشاطات موجهة للبراعم والشباب، منها عروض لنادي الكاراتيه، وأمسيات للألعاب الفكرية، والمباريات النهائية للكرة الطائرة وكرة القدم لفرق جمعية الإصلاح والكشافة. ويرافق ذلك برنامج خاص بالنساء، تنظمه طالبات كلية الإصلاح، يشتمل على محاضرات علمية تقدّمها نخبة من الباحثات والمرشدات، مما يثبت تنوع وتكامل الفعاليات‪.‬‬
وسيختُتم الملتقى بعد أسبوع حافل، ، بوصلات فنية ووقفة تكريمية خاصة للأستاذ والمؤلف بكير بن سعيد أعوشت، صاحب العديد من المؤلفات القيمة، إلى جانب تكريم المشاركين من أفراد وهيئات، وقراءة التوصيات العلمية الختامية.

تعريف بجمعية الإصلاح

تعد جمعية الإصلاح بغرداية واحدة من أعرق الجمعيات الإصلاحية والتعليمية في الجزائر، حيث تأسست يوم 14 أفريل 1928م الموافق لعام 1346هـ. وكانت الإدارة الفرنسية قد وافقت على اعتمادها بعد محاولات طويلة ومضنية بدأت منذ عام 1924. شكّلت الجمعية خطوة جريئة في مسيرة النضال الثقافي والاجتماعي ضد سياسات الاستعمار الفرنسي، الذي حاول بكل الوسائل عرقلة جهود الجمعية، إذ تعرضت لمضايقات مستمرة من الحاكم العسكري وأعوان الإدارة الفرنسية. ومع ذلك، تمكنت الجمعية من الصمود، بفضل التخطيط المحكم، والصبر، والإخلاص في العمل‪.‬‬
كان الهدف الأساسي من تأسيس الجمعية هو النهوض بالمجتمع المحلي من خلال نشر العلم، ومحاربة الجهل والفقر والانحراف الأخلاقي، وهي آفات تعمّقت نتيجة السياسات الاستعمارية التي استهدفت تفكيك البنية الاجتماعية والثقافية للجزائريين. ومنذ انطلاقتها، أبدت الجمعية رؤية ثاقبة في تحقيق أهدافها، رغم التحديات الكبرى التي واجهتها. أسست مدرسة الإصلاح عام 1932، وكانت قد بدأت بتعليم 11 تلميذًا، وقامت بدور محوري في توسيع نطاق التعليم بمنطقة مزاب، خاصة بعد مساهمة الطلبة العائدين من تونس والمتخرجين من البعثة البيوضية بالقرارة على غرار الشيخ حمو فخار، والذين كان لهم أثر طيب في تطوير المناهج التعليمية للجمعية‪.‬‬
لم تقتصر جهود الجمعية على الذكور فقط، بل شهد عام 1950 تأسيس أول قسم خاص بتعليم البنات، في تحدٍ واضح لمحاولات الاستعمار الفرنسي احتواء التعليم النسوي عبر إنشاء مدارس فرنسية موجهة للبنات. كما شهدت الجمعية توسعًا في نشاطها ليشمل الجانب التربوي والشبابي، حيث تم تأسيس الفوج الكشفي عام 1958، في خطوة لتعزيز الروح الوطنية والانتماء لدى الناشئة.
إلى جانب دورها الإصلاحي والتربوي، برزت الجمعية كجزء من النسيج الوطني المقاوم للاستعمار، حيث ساهم عدد من معلميها ومنتسبيها بشكل فعال في الثورة التحريرية الكبرى، أمثال المجاهدين إبراهيم رمضان وإبراهيم دادي واعمر اللذين تعرضا للاعتقال وسجنا بسجن بربروس.
وعلى مدى سنوات الاستقلال، فتحت الجمعية مدارس أخرى للبنين والبنات لتدريس القرآن وعلوم الشريعة واللغة العربية ومعهدا للتعليم المتوسط والثانوي وكلية للبنات. وامتد نشاط الجمعية إلى الجانب الثقافي والرياضي، مع تأسيس اللجنة الفنية والمسرح ونوادي رياضية، مما يعكس تنوع اهتمامات الجمعية وحرصها على تقديم أنشطة شاملة تخدم مختلف شرائح المجتمع‪.‬‬
تداول على رئاسة الجمعية نخبة من الشخصيات الإصلاحية التي تركت بصمتها في مسيرة الجمعية، بدءًا من الشيخ صالح بن قاسم بابكر (1976-1928) الذي قاد الجمعية في مراحلها التأسيسية الحاسمة، ثم علي بن عمر الناصري (1981-1976)، وبابا ثامر بن إبراهيم بوعروة (1988-1981)، وإدريس بن سعيد أعوشت (2011-1988)، وصولًا إلى محمد بن إبراهيم بشيش (2023-2011)، وعمر بن صالح الشيخ صالح الذي شغل منصب رئيس شرفي خلال نفس الفترة. أما حاليًا، فيترأس الجمعية منذ عام 2023 الأستاذ علي بن إبراهيم نجار، الذي يواصل مسيرة الجمعية في تحقيق أهدافها الإصلاحية‪.‬‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى