أقلام

من الإبادة الأهلية إلى الاستقرار السياسي

 بقلم الأستاذ المهدي سلطاني 

 

 بعد حوادث الحرائق التي شهدتها ولايات عدة في الجزائر وأيضا ازدياد خطاب الكراهية والجهوية وتبادل الاتهامات بين أفراد المجتمع الجزائري، وبعد حادثة الشاب المغدور وحرقه علنًا وعلى مرأى ومسمع الجميع، ازدادت شحنة هذه الاضطرابات والاتهامات خاصة عبر وسائط التواصل الاجتماعي ،والتي غلب عليها الطابع العنصري والقبلي ،وأصبح الكل يحاول تبرير المواقف سواء بالسلب أو الإيجاب. 

كما انقسم الشارع أيضا بين مؤيد ومعارض، وبين من يطالب بضرورة الوحدة في هذه الظروف ومن يحاول أن يوسع فجوة التفرقة والعنصرية التي مست بشكل كبير البعد الثقافي لمناطق عديدة في الجزائر كما شملت أيضا هذه الحملة الأصول الاثنية والعرقية (شاوية، مزابيه، ترقية، أمازيغية، نايلية، عربية وغير ذلك).

لذلك ارتأينا من خلال هذا المقال الحديث عن إدارة التنوع الثقافي والعرقي والإثني في دولة رواندا، والتي أصبحت نموذج حَيْ يُدَرس حتى في كبرى الجامعات وكليات العلوم السياسية،  نموذج يُنصح العمل به ويُحتذى به نظرًا لنجاعته ونجاحه في تحقيق الاستقرار ،والسلم  بعد ما  كانت البلاد تعيش تحت تأثير مخلفات الإبادة والحروب الأهلية، غارقة في مشكل التعدد القبلي والتنوع العرقي، ناهيك عن الصراعات الثقافية والهوياتية التي زادت من حدة الانزلاقات، والأطماع الاستعمارية الأوروبية القديمة في القارة السمراء والتي لازلت أعينها على المنطقة.

 هذه الدولة التي استطاعت بفضل قيادتها الرشيدة أن تحقق الوحدة الوطنية، والنمو الإقتصادي في وقت قياسي وحولت كل التنوع العرقي والتعدد الإثني والثقافي إلى نقاط قوة وعوامل للتطور على مستويات عدة.  كانت هذه أهم التحديات التي واجهت الرئيس الرواندي بول كاغامي الذي تولى رئاسة رواندا بتزكية من البرلمان عام 2000، ثم انتُخب في الأعوام 2003 و2010 و2017. كما قام بتعديل الدستور ليتسنى له البقاء في الرئاسة ثلاث فترات أخرى تنتهي عام 2034. 

 

  • النموذج الرواندي

 

 كما سبق وذكرنا من قبل، كانت هذه الأخيرة تُعاني من صراعات دامية ومجازر جماعية بين القبائل المكونة للمجتمع الرواندي والتي تعتبر مخلّفات الإستعمار الألماني والبلجيكي، مما أدى إلى تدني المستوى العلمي والاجتماعي والاقتصادي في جميع المجالات، بالإضافة إلى انتشار الفقر والأمية والأمراض وازداد الاقتتال في ظل غياب سلطة رشيدة وحكيمة تحول هذا الاختلاف من محور صراع إلى محور توافق ووحدة وطنية.   

  فمن الناحية الإثنية والعرقية، كانت رواندا تتكون من من ثلاث مجموعات عرقية: الهوتو بنسبة 84٪ ، التوتسي بنسبة 15٪ ، الطوا بنسبة 1٪ ، والهوتو في الأصل هم عمال زراعيون ، بينما التوتسي كانوا من مالكي الأراضي والعقارات. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الصراع المدني الرواندي كان بسبب الاستعمار الذي خلق اختلافات  كثيرة بين كل من رئيس قبيلة الهوتو وزعيم قبيلة التوتسي، إذ ساهمت في حدته وتأزمه أكثر الإدارة الإستعمارية  البليجيىة التي قامت باستصدار بطاقات هوية للتمييز العرقي، وهذا ما ساهم كثيرا في تزايد الانزلاقات  وتوتر الصراع في العلاقات بين القبليتين.  وكانت النتيجة هي نشوب حرب أهلية سنة 1959، والتي على إثرها تم إزاحة الحاكم التوتسي من السلطة وأصبحت الزعامة بيد قيادة الهوتو،  بعد هذا نزح عن رواندا ما يقارب 150 ألف مواطني أغلبهم من القبيلة المنهزمة (التوستي) وشكلوا فيما بعد الجبهة الوطنية الرواندية المتمردة، ثم عادت الجبهة الوطنية إلى رواندا باسم الديمقراطية وحقوق اللاجئين واندلعت الحرب من جديد عام 1994 واستمرت إلى غاية عام2000 أين تولى كاغامي سدة الحكم.

بعد تزكيته من طرف البرلمان شرع هذا الأخير في إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة   كانت كلها تصب في قالب واحد وهو تعزيز المواطنة والاندماج الوطني محاولاً بذلك القضاء على كل مخلفات الصراع الإثني الذي شهدته البلاد والاقتتال العرقي الذي أدخل المجتمع الروندي في حروب أهلية متواصلة.

بول كاغامي عمل على تعزيز السلم والإستقرار والتعاون ومحاكمة كل الفاسدين ومن كان لهم يد في نشوب الأزمة الرواندية على المستوى الداخلي وساهموا في استمرارها بشكل كبير، حيث قام بتأسيس الـ”جاكاكا”، وهو مجلس الحكماء والذي شُكِل من أعيان وكبار المجتمع الروندي وممن يُشهد لهم بالحكمة وبالقبول الشعبي والحنكة السياسية لحل مشاكل الإبادة الجماعية وإرساء ثقافة المصالحة والتي من خلالها تم العفو عن المتهمين مقابل الإقرار بالذنب والمساعدة في إلقاء القبض على القيادات المشعلة لهذه الفتنة.

 ثم تلتها مبادرات أخرى كمبادرة (أوموغاندا Umuganda) لإحياء الثقافة الرواندية بكل أشكالها وتنوعها وتكييفها مع برامج التعليم والتنمية المجتمعية، لتنطلق مبادرة أخرى تقضي بتعزيز العمل الجماعي والعمل كفريق متماثل يجمع كل أطياف المجتمع الرواندي والمتمثلة في مبادرة (أوبوديهي Ubudehe).

آليات الرئيس بول كاغامي تواصلت بإطلاق مبادرة (غيرينكا Girinka) لإعادة بناء رواندا وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة لجميع القبائل المتصارعة فيما بينها وكذلك مبادرة (إيتوريروريي غيهوغو Itorero ry`Igihugu)، لدعم الثقافة الوطنية في عدة مجالات، مثل اللغة، العلاقات الاجتماعية والرياضة، المواطنة وتسيير الثقافة بشكل دقيق تفاديا بكل أشكال التمييز الثقافي والعرقي والاثني الذي ساد البلد من قبل. 

هكذا فقط استطاعت روندا أن تتحول من بلد يعاني ويلات الصراعات القبلية والإثنية وكل أشكال التمييز العنصري والفقر المُدْقِع إلى بلد آمن ومستقر سياسيا وثقافيا واجتماعيا إلى غير ذلك، كما أدى هذا إلى بروز تحالفات كبيرة جمعت كل الجماعات العرقية وبتنوعها  بهدف إنشاء الأحزاب على المستوى السياسي والمشاركة في الإصلاحات السياسية التي أطلقها كاغامي منذ توليه الحكم. 

 

  • إدارة الاختلاف بكل أشكاله

 

 نعم هذا ما يؤكد لنا مرة أخرى أن بوق التفرقة والتمييز وشن الخلافات التي تعود لأصول عرقية ودينية واثنية لا يؤدي بالبلاد إلى بر الأمان وإنما يساهم في زرع الفتنة والبلبلة وانفصال قبائل في شكل دويلات تتصارع وتتناحر في ما بينها. 

 تعتبر رواندا الآن من بين أكبر الدول الإفريقية في التنمية الاقتصادية والسياحية حيث أصبحت تحتضن كبريات الفعاليات السياسية والرياضية القارية،لأنها أصبحت دولة نموذجية في مسار الإستقرار والأمن هي من أهم المعايير المتبعة في اختيار دولة لاستضافة أي قمة إفريقية أو فعالية كما أشار كل من محمد توكل و عبده عبد الكريم في مقالهم الموسوم ب “رواندا….بلد الإبادات الجماعية سابقا. أنظف عاصمة إفريقية حاليا “العاصمة الرواندية كيغالي تستضيف الأسبوع المقبل القمة الإفريقية الـ27”.

ختام هذا المقال يجب أن نذكر بأن إدارة الاختلاف بكل أشكاله (عرقي، ديني، لغوي، ثقافي، أيديولوجي) لابد أن تكون بذكاء ومهارة وتحت إشراف سلطة رشيدة تحول هذا التنوع من نقطة ضعف وسببا في التفريق والتشتت بين أبناء البلد الواحد إلى مصدر للقوة والوحدة الوطنية وكذا لتحقيق سياسية الاندماج المجتمعي على أوسع نطاق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى