
لا شك في أن الحركة الوهابية التي امتدت بعد دعوة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية زعما لم تكن أبدا إصلاحية وإنما هو رجوع إلى حقبة تاريخية معينة ،وقراءة فقهية معينة للإسلام وكيفيات تمثلاته في الواقع السلوكي والجانب العقدي للفرد المسلم ولذلك كان توغلها في التاربخانية الضيقة والنصية الحرفية المباشرة مما جعلها حركة بدائية وبدوية منذ بدايتها تعتمد على استعارة مقولات عقدية وفقهيه جد ضيقة وملغية في نفس الوقت تراكم هائل من المدارس الفقهية والفكرية تشكلت عبر مسار الحضارة الإسلامية التي كانت جد مرنة في قدرتها على استيعاب فلسفات وثقافات لأجناس وقوميات وحضارات متعددة ومختلفة وعليه فإنالوهابية منذ نشأتها توزع فقدان السيادة للإسلام لأسباب مفارقة للواقع فعوض أن ترى سبب النكوص الحضاري يعود إلى البعد عن مقاصد الإسلام الحقيقية العالية (الدين والنفس والمال) اكتفت بتفسير واحد ملخصه أن العلة هي الابتعاد عن التوحيد الصحيح وانتشار مظاهر الشرك إلى درجة لم تفرق فيه بين ما كان منتشرا من أعراف وعادات وتقاليد وما شاب العقيدة من ابتداع، ونتيجة عدم تميزها وتدقيقها في التشابك بين ما هو ثقافي محض وديني صرف رفضت كل المذاهب والمدارس العقدية والفقهية وحتى الفكرية عقلية كانت أو روحية صوفية التي تشكلت عبر تاريخ الحياة الحضارية….
وعليه فإن الدعوة الوهابية كحركة دعوية كانت تخفي رغبة سياسية راحت تبحث من أجلها عن أي قوة تمكنها من تطبيق دعواها فوجدت في شهوة آل سعود إمكانية جيدة ووجد آل سعود. منفذ وذريعة دينية مناسبة لطموحهم وتطلعهم لفرض سلطانهم ولذلك كان التحالف متناهيا في الوقوف معا ضد ما هو سايد وقائم من سلط ومعا واصل التمرد على الحكومات الشرعية القائمة، والمفهوم الدينية السائدة حينها سواء كانت امتداد نفوذ للخلافة العثمانية أو للأسرة الهاشمية التي أيضا دفعها تطلعها إلى بسط نفوذها إلى التعاون مع بريطانيا الاستعمارية هذه الأخيرة كان أملها حلمها الدفين هو شيطنة الخلافة العثمانية بهدف القضاء عليها فوجدت الذريعة والوسيلة آلت تجعل من العرب بسذاجتهم وتخلفهم وعدم استيعابهم لحركة التاريخ مشرطا تقطع بها أطراف الرجل المريض بل استطاعت حتى أن تجند بدوها وعربانها وبتوجيه وقيادة لورنس العرب كخبرة جوسسة سياسية بريطانية، وقد لبس عقالا عربيا لتحقيق طموح تاج ملكته، وحكومتها فأنتشي فرحا وهو يشاهد العرب- الثائرين- على الخلافة يحطمون أهم رباط كان يوصلهم ويربطهم بمركز الخلافة وأهم الإنجازات حينها وهو خط السكة الحديدية هذا المشروع الذي بذلت فيه الخلافة العثمانية جهدا وجهادا لربط رعاياها وأطرافها بانتمائها الديني المقدس المتمثل في المدينة المنورة ومكة ولكن سذاجة وسطحية النخب والسلط والزعامات العربية المتطلعة زعما لبعث قومي عربي جعلت لورنس يشرب نخب الانتصار النهائي من خمر معتق بفرح فياض والقوم يحسبونه لبن إبل لمجرد أنه قال يوما إنه يحب جمالهم وبدواتهم!.
الوهابية ولحاف السعودة
إن تأسيس آل سعود لمملكتهم قام على تحالف متين بين أمرين الأمر الأول هو = السياسة والملك لآل سعود وأحلافهم الأمر الثاني هو الدعوة وشؤون الديانة لعلماء الدين وخاصة التلاميذ الذين انخرطوا في الدعوة الوهابية بعنوان الرجوع بالإسلام عقديا وفقهيا وحياتيا الى ما كان عليه السلف وعلى فهمهم هم فقط لأصلين مهمين جدا وهما القرآن، والسنة والوقوف فقط عند تفسيرهم ووجدوا سندهم في ذلك مذهب مدرسة أهل الحديث المتمثلة في الامام أحمد بن حنبل، والإمام الحراني بن تيمية الذي يعد عندهم علما مهما بحيث اخذت أقواله وأراءه، وفتاويه مرجعية وحيدة (بمثابة سنة السنة) وعلى ذلك استبعدوا أي علم أو فكر يدعو الى اعمال العقل او التفكير التأملي أو أي تفسير مقاصدي أو بالرأي، ورفعوا في ذلك راية التبديع والتكفير لكل مخالفيهم من مختلف المذاهب والمدارس ووجد السلطان في ذلك ذريعة جيدة لوسم كل مخالف سياسي، ومعارض له بأنه من الخوارج، وسيصحب ذلك إضفاء شرعية دينية مقدسة جيدة في الاقصاء، والقتل، والتنكيل، وبراحة ضمير من منطلق أن [منازعة ولي الأمر في الأمر مطية لفتنة كبيرة] وخاصة ان السلطان القائم لم يكتف بأخذ ملك نجد والحجاز بل قام بسعودة البشر، والجغرافيا، وحتى الاماكن المقدسة التي كانت ملك كل المسلمين وبخدمتها يحيث تمو خصخصة شرف خدمتها ومهمة مقدسة للنظام السعودي فقط وحده ومن خلال ذلك ايضا تم للوهابية أن أصبحت هي الرؤية الناطقة والرسمية في المسجد الحرام، والنبوي وإزاحة اي خطاب اخر مختلف… وهنا انتهى التشابك بصورة عجيبة بينهما.. وكل ذلك تحت رعاية بريطانيا الاستعمارية ثم وريثتها فيما بعد الولايات المتحدة الامريكية كقوة عالمية حيث إنها ستكون حامية ومشرفة لمنابع النفط المتعددة وحتى المقدسات * حرب الخليج نموذجا * وقد قفز الحال بسبب توفر الثروة بالوهابية قفزات متسارعة فأصبح لها امتداد وتأثير واسعان في كل ما كان يسمى قديما ديار الإسلام بمسمى الحركة السلفية المعاصرة.
توفر الأموال
لقد وفر توفر الأموال تأسيس التجمعات والجامعات وتأطير مختلف الطلاب والبعثات من كل بقاع البلدان الإسلامية وطبع الكتب والمجلات والخطب وصناعة الدعاة وعلماء دين وهابية وحتى متسعودين إلى انتشار هائل للفكر الوهابي في العالم الإسلامي. إن السلفية بين التاريخ الضيق الجامد والواقع المتغير بكثافة، أوقعت بنفسها منذ البداية أن تكون في مأزق وتأزم إلى درجة أنها بدت غريبة (وهي لا تنزعج من هذه الغربة بحجة أن الإسلام كما بدا غريبا سيكون غريبا في آخر الزمان والمتمسك بدينه مثل المتمسك بالجمر في يديه) غربة عن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية رغم أن خطاب الحركة “تاريخاني” وغربة عن الواقع المعاصر. أما غربتها عن التاريخ فهي أصلا لا تفهم التاريخ من الداخل والممتد لأربعة عشر قرنا على أساس أنها مخاضات أحداث محركها الدين الإسلامي وإنما وقفت عند حقبة لا تتجاوز ثلاثين سنة تراها هي الحقبة الذهبية في الفهم والتطبيق وماعداها كلها عصور نمت فيها البدعة والانحراف عن الأصل ولذلك تستشهد كثيرا على هذا الفهم بجملة من الأحاديث تعبر عما مضمونه أن خيرا القرون هو القرن الأول وبالضبط عصر النبوة والخلافة وأن كل ما عاداه وتلاه هو ابتعاد عن العصر النوراني المضيء وأن منهج السلف هو الصالح السليم والمستقيم والمنجي.
والمتأمل يجد أن فهم تاريخ الإسلام من خلال (النص) في التاريخ وليست أحداثه وتغيراته يجعلها غير مستوعبة لحركة التاريخ أصلا مع أن النص نفسه “القرآني والنبوي” هو خطاب موجه للإنسان من حيث إنه إنسان ،ومن حيث إنه هو محرك التاريخ وفق مبادئ واضحة إنسانية ،ومثالية وواقعية فيها من الوضوح والمرونة، والشمولية دون تناقض ومستوعبة لجميع البشر باختلافاتهم وتنوعهم العرقي والثقافي، ولذلك هو خطاب عالمي ولمستقبل الإنسانية كلها محاورها مقاصد أخلاقية متعالية.
أما غربتها عن الواقع فهو نتيجة حتمية لجمودها في حدود النصوص وبفهم ماضوي وفق شروط وظروف تاريخية معينة ولذلك لم تقدر أن تفهم الواقع المعاصر وتغيراته الهائلة والتي مظهرها تقدم علمي وحضاري كبير جعل الفرق شاسع بين الغرب المسيحي المتقدم والشرق الإسلامي المتخلف.
منتجات الغرب واختراعاته ومكتشفاته
حاولت السلطة السياسية الحديثة في بلاد الحجاز ونجد أن تستفيد من منتجات الغرب واختراعاته ومكتشفاته واستغلالها في التحديث والبناء كاستعمال السيارة والكهرباء والطيارة والمنازل الحديثة وحتى الأساليب من عيش وتجمع معاصرة ولكن بعقلية المشتري فحسب وليس المنتج وبطريقة استهلاكية مكثفة نتيجة وفرة المال والثروة من تجارة النفط المعتمد عليه كسلعة مهمة في الحضارة الغربية وعليه فإن وفرة المال والثراء المفاجئ الحادث أحدث تحورا متسارعا من حياة البداوة المتجذرة والموروثة إلى حياة المدنية المستحدثة فحاولت الوهابية أن تخضع كثيرا من الأمور المستحدثة للنص،مثال ذلك منعت في البداية تعليم النساء والسفر دون ولي والسير دون حجاب وحرمت والولوج إلى المهن والوظائف وقيادة السيارة وتعليم الفنون بمختلف أنواعها ومنعت علوم التفكير والفلسفة. وفي جامعاتها الدينية منعت دراسة مناهج مقارنة الأديان والمذاهب والمدارس الفقهية ومختلف النظريات الفكرية ولكن ضغط الواقع والتطور التكنولوجي الحاصل وسيطرة العولمة على حياة الجميع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت التي سوت بين الجميع لأن المعلومات متاحة للجميع جعلت الرؤية الوهابية المتحجرة غير قادرة على استيعاب الاختلاف والتجدد والتعدد في الآراء وظهر أن هناك اختلافا كبيرا في قراءة الإسلام بين الفرق والمدارس وبدأت ثقتها في أنها هي فرقة الحقيقة والنجاة تتضعضع ولم يعد لها من مهمة يمكن أن تستمر بها إلا مهمة التركيز على مسألة طاعة ولي الأمر. إلى درجة التأليه بحيث جعلتها هي مركز كل تفكيرها واجتهادها وإفتائها وعلى أساسها.
بدعت وكفرت المخالفين وقربت الموالين وبدأت تغوص رويدا رويد إلى أن أصبحت السلفية عموما تفكر بدماغ وهابي محض مناصرة للعلمانيين والمتغربين. والمطبعون مع الكيان الإسرائيلي الصهيوني ولم تستنكر ذلك ويصرح أحد أئمة الحرم المكي البارزين والذي كان يدعو بخشوع متباك ومبك صباح ومساء على واليهود والضالين بالهلاك: “إن سلطانه وأمريكا ينشدان معا السلام والتآخي البشري” وأدى التركيز على علوم الحديث وحدها ووفق الرؤية السلفية الصرفة إلى الاهتمام. بتفاصيل الاعتقادات والعبادات إلى درجة الاستغراق في السطحية والتقعيد تصوغ كتالوغات (كدليل تركيب الآلات الميكانيكية) لكيفيات العبادات والأقوال والأفعال هذا التسطير الهندسي المستغرق في تفاصيل التفاصيل أفرغ التدين من روحانيته وأبعد الإسلام عن الرؤية المقاصدية التي هي وجوهره وبذلك تحول الإسلام في آخر المطاف وبكل أركانه إلى وجبات جاهزة من إخراج علماء طبخ السلفية مثلما تخرج وجبات الأكل السريع جاهزة من مطاعن ماكدونالد ولم تخف الدوائر الغربية والأمريكية سعادتها بهذا الإسلام الخاضع والمسالم المؤمرك بل والمتناغم مع أهداف الصهيونية ووسم أي إسلام ثوري متمرد يطالب بسيادته وكرامته وحريته.
التدين الشكلاني والسطحي
لقد أنتج هذا الخطاب المسمى سلفي طريقة من التدين الشكلاني والسطحي وطريقة تفكير نمطية تهتم بالبحث عن كيفيات التطابق التام مع أنماط معاشية وتعبدية خاضعة لما رواه علماء الحديث من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم رغم البعد الزماني المكاني واختلاف الظروف الحياتية فتلاحظ في أي مجتمع إسلامي طائفة من الناس تختلف في الرأي والتصرف عن جموع المسلمين إلى درجة أن كل مرة يحدث صدام في الفهم والسلوك لما ينتج عنهم من اختلافات وتصرفات يدعون أن ما يقومون به هو الصحيح وهو ما كان عليه رسول الله وأصحابه.
لقد بينت محطات مختلفة في الحياة الاجتماعية للمسلمين وخاصم تلك المتعلقة بممارسة بعض الأقوال والأفعال وحتى بعض المظاهر الثقافية الموروثة كالاحتفال المولد النبوي والاحتفال ببعض الأعراف والعادات القومية والقبلية أن الوهابية نتيجة رؤيتها النصية والحرفية المنغلقة جعلها دعوة جامدة ومتكلسة غبر قادرة على فهم المقاصد والمآلات التي يجب أن يتأسس عليها أي خطاب إسلامي يريد أن يعود إلى السيادة الحضارية.
لقد أدى هذا الجمود والعجز في الفهم والتطبيق لدى الخطاب السلفي أن أصبح غير قادر على التلاؤم مع الواقع المتغير للمجتمعات المسلمة وأن يفقد اهتمامه بالقضايا الملحة والمهمة للأمة كقضية فلسطين والأقصى من منطلق أنها أهم القضايا الإسلامية في عصرنا الحالي بل إن الأمر الأخطر أصبحت لغة الخطاب السلفي عموما والوهابي خصوصا هو تبرير حتى السيطرة الغربية والإمبريالية والاستعمارية على العالم وعلى فلسطين أن الخطاب السلفي رغم حرصه على سلامة الاعتقاد. فإنه لم يعد معبرا عما يختلج ضمير المسلم وعواطفه.
سراي مسعود