
تُعتبر الرقابة الدستورية أسمى أنواع الرقابات على الإطلاق نظرا لمجالها الخاص والمتعلق بدستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات الصادرة عن السلطة التشريعية أو التنفيذية، وكذا الأحكام القضائية في حالة الدفع بعدم دستورية القانون أو التنظيم المبني عليه الحكم، وكذلك انطلاقا من أن هذه النصوص التشريعية والتنظيمية تُعتبر هي عمادة التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي للدولة، الأمر الذي يتطلب إيجاد هيئة وآلية تقوم بالحرص والسهر على مدى احترام البرلمان والحكومة للدستور عند إعداد القوانين والتنظيمات والمصادقة عليها.
الرقابة الدستورية في الدستور الأمريكي
لم ينظم الدستور الأمريكي الرقابة على دستورية القوانين بصريح النص، وذلك ما يُستنتج من القراءة السطحية لهذا الدستور. إلا أنّ التدقيق في مواده، خاصة الفقرة الثانية من المادة الثالثة التي تقر: “تشمل السلطة القضائية جميع القضايا المتعلقة بالقانون والعدل التي تنشأ في ظل أحكام هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة والمعاهدات المبرمة أو التي ستُعقد بموجب سلطتها” وكذا الفقرة الثانية من المادة السادسة التي تنص على أن “هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي تصدر تبعا له وجميع المعاهدات المبرمة أو التي ستُعقد تحت سلطة الولايات المتحدة تُكوِّن القانون الأعلى للبلاد، يكون القضاة في جميع الولايات ملزمين به، ولا يؤخذ بأي نص في دستور أو قوانين أية ولاية يكون مخالفا لذلك”، يجعلنا نستنتج أن الدستور الأمريكي يفتح الباب عن طريق التفسير أمام المحاكم القضائية للنظر في مدى تطابق القوانين الصادرة مع الدستور.
وهذا ما أخذت به المحكمة الاتحادية ابتداء من عام 1803 حين أصدر القاضي “جون مارشل” حكمه في قضية “ماربوري ضد ماديسون” والتي تعتبر القضية الأساسية في تاريخ الرقابة القضائية على دستورية القوانين بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد وجد القاضي في هذه القضية تعارضا بين نص القانون الواجب التطبيق ونص الدستور، فتنبه إلى أن دور القاضي هو الحكم بموجب القوانين، والدستور هو أعلى القوانين، ومنه فإذا ما وجد نص قانوني متعارض في مضمونه مع الدستور وجب على القاضي تطبيق القانون الأعلى أي الدستور وإهمال القانون المخالف له.
ويستنتج من هذا النموذج أن النظام الأمريكي أخذ بالرقابة القضائية لدستورية القوانين، بينما أخذ النموذج الفرنسي بالرقابة السياسية لدستورية القوانين. وقد سارت بقية البلدان على أحدهذين المنهجين ومنهم البلدان العربية، حيث أخذت البلدان المغاربية الخمس بالنموذج الفرنسي، بينما تأثرت البلدان المشرقية وبعض البلدان الخليجية بالنموذج الأنكلوسكسوني.
- الرقابة الدستورية في الدساتير الجزائرية
عرفت الجزائر منذ الاستقلال ستة دساتير، اثنان في ظل حكم الحزب الواحد والنظام الاشتراكي، وهما دستور 1963 ودستور 1976، وأربعة في ظل التعددية السياسية والنظام الليبرالي، وهما دستور1989 ودستور 1996، ودستور 2016 وأخيرا دستور 2020.
- الرقابة الدستورية في دستور 1963
خص دستور 1963 مادتين فقط للمجلس الدستوري وهما المادة 63 والمادة 64. ويتألف المجلس من سبعة أعضاء وهم رئيس المحكمة العليا، ورئيسي الحجرتين المدنية والإدارية في المحكمة العليا، وثلاثة نواب يعينهم المجلس الوطني وعضو يعينه رئيس الجمهورية. أما رئيس المجلس فيتم انتخابه من قبل الأعضاء وصوته غير مرجح في حالة تساوي الأصوات. والملاحظ في تركيبة المجلس، أن السلطتين التشريعية والقضائية ممثلتان أحسن تمثيل، بينما السلطة التنفيذية ممثلة بعضو واحد يعينه رئيس الجمهورية.
ويفصل المجلس الدستوري في دستورية القوانين والأوامر التشريعية بطلب من رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الوطني. ويكون دستور 1963 بهذا قد ضيق مهام المجلس الدستوري حيث تجاهل دستورية المعاهدات والتنظيمات والنظام الداخلي للمجلس الوطني، كما تجاهل الإجراءات الخاصة بتسيير المجلس الدستوري. تجاهل أيضا دستور 1963 وظيفة مراقبة صحة عمليات الاستفتاء وانتخاب رئيس الجمهورية والانتخابات التشريعية. والحقيقة أن المجلس الدستوري لم ير النور في ظل دستور 1963 لأسباب عدة، تعود إلى الظروف السياسة التي شهدتها البلاد في السنوات الأولى للاستقلال، وقد تم وقف العمل بهذا الدستور استنادا للمادة 59 منه وهذا على إثر التمرد العسكري الذي قاده حسين آيت أحمد، كما تم إلغاء الدستور بموجب الأمر رقم 65/182 الصادر في 10 جويلية 1965 إثر انقلاب 19 جوان 1965 والذي قاده الرئيس الراحل هواري بومدين.
- الرقابة الدستورية في دستور 1976
يوصف دستور 1976 بدستور برنامج، فهو أكثر الدساتير الجزائرية عددا من حيث المواد، ومع ذلك فهو لم ينص صراحة على مبدأ الرقابة على دستورية القوانين. غير أنه أسند مهمة المحافظة على حريات وحقوق الأفراد للقضاء، واعتمد مبدأ أن القاضي لا يخضع إلا للقانون، كما أسند مهمة الدفاع عن مكتسبات الثورة الاشتراكية وحماية مصالحها للقضاء أيضا. ويعود ذلك إلى تأثر هذا الدستور بالفكر الاشتراكي وتجسيد مبدأ الحزب الواحد والابتعاد عن مبدأ فصل السلطات، حيث استعمل بدل ذلك مصطلح الوظيفة وعددها ستة وهي على التوالي: السياسية والتنفيذية والتشريعية والقضائية والمراقبة وأخيرا التأسيسية.
- الرقابة الدستورية في دستور 1989
عمل دستور 1989 على إقرار المجلس الدستوري تماشيا والنظام السياسي الجديد القائم على التعددية الحزبية. ويتكون المجلس من سبعة أعضاء اثنان منهم يتم تعيينهما من طرف رئيس الجمهورية، واثنان يتم تعيينهما من طرف المجلس الشعبي الوطني من بين النواب واثنان يتم انتخابهما من المحكمة العليا من بين أعضائها. ويضطلع أعضاء المجلس الدستوري بمهامهم مرة واحدة غير قابلة للتجديد مدتها ست سنوات، بينما يجدد نصف عدد أعضائه كل ثلاث سنوات. أما رئيس المجلس الدستوري فيتم تعيينه من طرف رئيس الجمهورية لفترة واحدة مدتها ست سنوات غير قابلة للتجديد.
وتتمثل المهام الرقابية في مجال دستورية القوانين لهذا المجلس في الفصل في دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات وكذا النظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني وذلك بعد أن يتم إخطار المجلس الدستوري من طرف رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الشعبي الوطني. وكان أهم حكم سياسي أصدره المجلس الدستوري تحت رئاسة الراحل عبد المالك بن حبيلس بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، هو المتمثل فيالبيان المؤرخ في 11يناير1992حيث أكّد “أنّ دستور 1989 لم ينص على حالة اقتران شغور المجلس الشعبي الوطني عن طريق الحل، وشغور رئاسة الجمهورية عن طريق الاستقالة”، وهو ما دفع بالسلطة إلى إنشاء المجلس الأعلى للدولة لتعويض الرئيس المستقيل والبرلمان المحل.
- الرقابة الدستورية في دستور 28 نوفمبر 1996
مقارنة مع دستور 1989، فإن المجلس الدستوري في دستور 1996 أمسى يتشكل من تسعة أعضاء، ثلاثة منهم، من بينهم رئيس المجلس، يعينهم رئيس الجمهورية وعضوان يتم انتخابهما من طرف المجلس الشعبي الوطني من بين النواب وعضوان يتم انتخابهما من طرف مجلس الأمة من بين أعضائه، وعضو واحد تنتخبه المحكمة العليا وعضو واحد ينتخبه مجلس الدولة.مدة العضوية ست سنوات غير قابلة للتجديد، ويجدد نصف عدد أعضاء المجلس الدستوري كل ثلاث سنوات.والملاحظ أن تركيبة المجلس الدستوري أصبحت غير متوازنة فيما بين السلطات الثلاثة، وذلك عكس دستور 1989، إذ أصبحت السلطة التشريعية ممثلة في أربعة أعضاء والسلطة التنفيذية في ثلاثة أعضاء، من بينهم الرئيس، والسلطة القضائية في عضوين فقط.
ويستنتج من هذه التشكيلة أن المؤسس الدستوري، ودون أن يُكيف الطبيعة القانونية للمجلس الدستوري، فقد أعطاه صبغة سياسية أكثر منها قضائية باعتبار أن عضوين فقط من أعضاء المجلس يحملان صفة القاضي ويمثلان السلطة القضائية.في الحقيقة، روعي في هذه التشكيلة عامل ترجيح الأغلبية الرئاسية داخل المجلس دستوري، وذلك حتى في حالة ما إذا كانت الأغلبية في المجلس الشعبي الوطني لا تتبع الحزب الرئاسي، باعتبار أن لرئيس الجمهورية صلاحية تعيين ثلاثة أعضاء من بينهم رئيس المجلس، زيادة على العضوين المنتخبين من طرف مجلس الأمة والمحتمل جدا أن يكونا من الأغلبية الرئاسية ما دام ثلث أعضاء مجلس الأمة معيّن من طرف رئيس الجمهورية، وهو ما يشكل أغلبية تتبع رئيس الجمهورية داخل المجلس الدستوري.
أما فيما يخص المهام الرقابية الخاصة بدستورية القوانين، فقد حافظ دستور 1996 على الصلاحيات التي أقرها دستور 1989 للمجلس الدستوري في هذا المجال، إلا أنه عمل على إدخال إضافات تماشيا مع التعديلات التي مست تنظيم السلطتين التنفيذية والتشريعية على الخصوص. وتتمثل هذه الإضافات فيما يلي:
- الفصل في مطابقة القوانين العضوية للدستور قبل صدورها برأي وجوبي بعد أن يخطره رئيس الجمهورية، وذلك في ظرف العشرين يوما الموالية لتاريخ الإخطار؛
- الفصل في مطابقة النظام الداخلي لكل من المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة للدستور قبل الشروع في تطبيقه برأي وجوبي بعد أن يخطره رئيس الجمهورية؛
- إمكانية إخطار المجلس الدستوري من طرف رئيس مجلس الأمة زيادة على رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الشعبي الوطني كما كان عليه الحال في دستور 1989.
- يتبع
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر