
لاشك أن للصوم اثر كبير في الجسم والنفس وخاصة من خلال العلاقة التي تربطهما فاذا كان الجسم في حالة الاعتياد له استجابة فورية لوضعيته الحسية التي يكون عليها الى درجة انه يحفز النفس أن تحول احتياجاته ونقائصه الى شهوات ورغبات تطلب إشباعها فانه في حالة الصوم نؤسس لعلاقة جديدة مضمونها أن النفس العاقلة المتعالية تحاول أن تحطم هذا الاندفاع الفوري لمطالب الجسم بان تقول له كفى مهما كانت رغباتك ملحة فلن أستجيب لها وهنا يبدأ مشروع تطبيقي وعملي يتم فبه تنمية معاكسة وهي التدرب على تقنية تحكم العقل في النفس والجسم معا بتفعيل الأمر الإرادي الذي مضمونه الامتناع الصارم .
ولذلك نجد أن ظاهرة الصوم في جميع الأديان والملل والنحل كانت تدريب على قدرة تحكم العقل في أهواء النفس وحاجات الجسم ولا شك أن هذا التمرين تم بتوجيه رباني فيخبرنا القرآن أنه كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا
وعليه فان الصوم طريقة تتيح لنا إمكانية التكيف مع أوضاع الامتناع عن الطعام وفي نفس الوقت تكشف لنا الجانب الروحاني فينا أي الجانب الإنساني الذي يمكننا من التميز عن الحيوان بمعنى أدق أننا من خلال هذه العبادة نكشف بوعي قوة الوجود الإنساني الروحاني فينا التي تتيح لنا التحرر من الحيوانية الحسية .
الصوم من أركان الإيمان
إن اكتساب القدرة على الصوم لا يمكن أن يقوم بها إلا مؤمن فعلا ، فالتأمل العميق في فرضية الصوم في شهر رمضان وخلال سنة كاملة ومن حيث أنه من أركان الإسلام الخمسة يأتي في المرتبة الرابعة يمكن أن نستشف من هذه التراتبية أنها ليست اعتباطية أو مزاجية وإنما بناء منهجي ، لأنه لا يحصل المقصد منه كعبادة جد مهمة وشاقة في نفس الوقت. إلا بعد إقرار واع بوحدانية الله ورسالية محمد عليه الصلاة والسلام وذلك من خلال شهادة يقينية بمضمونهما ومحورها تصديق واعي سيتبعه في ذلك إقامة الصلاة إقامة تامة بشروطها وواجباتها وسننها دون ابتداع أو اجتهاد من حيث أنها تأكيد لمضمون الشهادة و من خلال اتصال يومي بالله والتسليم له تسليما مطلقا في كل أمور الحياة جلها ودقيقها ويتبعه أيضا بعد ذلك الركن الثالث للإيمان المتمثل في الزكاة من حيث أخذ إلزامي لنسبة محددة ومحسوبة من ما تملك من مال ليصرف على أصناف وفئات محددة دون اجتهاد أيضا يصرف فيها هذا الحق على الفقراء والمساكين واليتامى وعابري السبيل والعاملين عليها وبالتالي كل ركن يلزم عنه تطبيق عملي تدرجي لما يليه بحيث تم التدرج من الفرد الى المجتمع.
والمتأمل لا شك انه يجد أن الركن الأول له بعد معرفي لا يحصل إلا نتيجة التفكير. والتدبر الذي يقوم به الإنسان من حيث إنه خاصية تميزه كفرد وكائن عاقل ولذلك (العقل) شرط جوهري. في أي تكليف شرائعي في دين الإسلام وعلى مداره تقوم المسؤولية وتبعة الأفعال من حيث النتائج فالتصديق العقلي والقلبي يلزم عنه لزوما عقليا وأخلاقيا الإقرار بحق الخالق في عبادته وحده والتوجه إليه وحده بالطلب والدعاء والشكر والحمد والذكر دون أن تشرك معه أي أحد مهما كانت قوته وكبره لأنه لا قوة ولا أكبر إلا الله وحده وهذا ما يتم التصريح به في كل صلاة (الله أكبر ) وفي كل عمل (بسم الله ) أي أن لكل ركن بعد معرفي وسلوكي واجتماعي في ترابط تام محكم بينهم ولكن صورها جد جلية في رمضان.
الصوم محك اختبار للإيمان
اذا كانت الشهادتين قولا وفعلا فردية ودائمة و الصلاة حوار يومي بالخالق خمسة مرات في اليوم فإن الصوم محك اختبار وتدريب مرة في السنة للنفس والجسم وهنا يمكن أن نقول أن الصوم تربص سنوي للمسلم يتم فيه تدريب النفس على رياضة جد مهمة تنمى فيها مهارة وقدرة النفس العاقلة على التحكم في مطالب النفس الشهوانية والغضبية من خلال الامتناع عن تناول مختلف الشهوات والرغبات التي يطلبها الجسم بإلحاح وخاصة أن هذا الامتناع يترقى من الجسم الى النفس ليتم فيه تربية للإرادة والعزيمة تربية حقيقية فقرار الامتناع عن تناول الأطعمة من وقت محدد الى وقت محدد هو فعل إرادي قوي جدا يتجلى فيه قدرة الإنسان على التحكم في شهواته ونزواته وبالتالي تغليب الجانب الإنساني فيه بتعالي مثالي على الجانب الحيواني ..ومن هنا بعد الصوم مدرسة حقيقية يتم فيه تربية النفس والعقل والروح على أداء فعال وناجع سيكسبها صلابة وقوة ستؤسس قدرة الشخصية أن تكون سوية وسليمة .
وبمعنى آخر أن الصائم خلال صومه يقدر من خلال هذا التمرين اليومي أن يتكشف الحدود الفاصلة بينما ما هو روحي فيه وما هو جسمي وأيضا يستطيع أن يتلمس عمليا حالة الوعي الإيماني وبوضوح لذاتيته العميقة ولا يتسنى له الحصول على مثل هذا الشعور ولو قرأ أطنان من الكتب التي تتحدث عن الجسم والنفس والروح والعقل ، أيضا تعلمنا مدرسة الصوم التطبيقية أن الفرد الإنساني. يملك قدرة عجيبة في أن يكون مصدر تصرفاته وسلوكياته كلها هي إرادته التي يتمتع بها وبذلك يمكن له أن يتحكم في انفعالاته وعواطفه الهوجاء وأن لا تكون مجرد ردود أفعال لوضعيات نفسية معينة …وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في الآيات التي تتحدث عن الصوم أن فيه خير عظيم (وأن تصومو خير لكم) ومن الشائع عند الكثير أن فوائد الصوم الصحية بالنسبة لبناء جسم كثيرة كما يؤكد المتخصصين في ميدان المعالجة بالصوم لكثير من الأمراض ..لكن اثره على النفس والروح والعقل اكثر بكثير …ذلك هو فعل لا يقوم به إلا “الإنسان”
الصوم تعديل للسلوك الاستهلاكي
كل سنة ولما يقارب الشهر يتم الاستعداد على المستوى الرسمي والشعبي لاستقبال شهر رمضان وذلك من خلال التخطيط لتوفير جميع السلع التي سيتم استهلاكها في هذا الشهر الفضيل وحتى في وسائل الإعلام المحلية يكثر الحديث عن هذه الاستعدادات الى درجة أنك تشعر فيها وكأننا مقبلين على شهر من حرب ضروس أو حصار. فتجد الناس مقبلين على الشراء إقبال العطشان على الماء. لقد رأيت بأم عيني تقريبا منذ أسبوعين وانا أتجول في أحد المتاجر الكبيرة إقبال الناس على الشراء وخاصة النساء لكل أنواع الأواني المطبخية ولكل البهارات والسكريات والمجففات من مشمش اصفر وبرقوق أسود وزبيب ذهبي ..إنه سلوك استهلاكي غير عادي وغير متوازن وهل كان هذا من تقاليدنا الاستهلاكية سابقا فما هو السلوك الاستهلاكي الذي يجب أن نتحلى حتى يتم الانسجام مع البعد الروحاني والعبادي لهذا الركن الذي يعد في أساس مدرسة لتربية النفس وتهذيب السلوك من حيث إنه قرار فردي وجماعي .
لا شك أن علماء الاقتصاد يجمعون بالتعريف أن السلوك الاستهلاكي هو مجموعة من القرارات والتصرفات التي يقوم بها الأفراد أو الجماعات عند شراء السلع والخدمات واستخدامها، وذلك بهدف تلبية احتياجاتهم ورغباتهم. ويؤكدون في دراساتهم البحثية تأثر هذا السلوك بعوامل متعددة، منها العوامل الاقتصادية والتي تتعلق بالدخل والسلع والعوامل النفسية التي تتعلق بالدوافع والعادات المختلفة والعوامل الاجتماعية مثل الثقافة والتقاليد والتأثيرات الإعلامية هذه الأخيرة التي أصبح لها دور كبير في توجيه السلوك الاستهلاكي نحو سلع معينة ويمكن أن نلخص مشكلة الفعل ورد الفعل الاستهلاكي في أن ندرس السلوك الاستهلاكي لفهم وتحليل الكيفية أو الطريقة التي يتم بها اتخاذ المستهلكين لقرارات الشراء خاصة ، وهذ ما تحرص عليه و يساعد الشركات والمسوّقين على تصميم الاستراتيجيات التسويقية الأكثر فاعلية، كما يُستخدم في صياغة سياسات التنمية الاقتصادية لترشيد الاستهلاك وتعزيز الوعي الاستهلاكي ولكن هل طبقنا كمسلمين هذه المقاصد؟
يبدو من خلال المعايشة اليومية أننا بعيدين كثير على تحقيق هذا المقاصد المعرفية والسلوكية من الصوم الى درجة تحول فيه الى شهر تتوقف فيه نشاطات كثيرة ومؤشرات ذلك أننا نغير أوقات العمل والجهد المبذول بحجة أن الصوم يؤثر علينا وسادت منظومة من القيم السلبية على مستوى الأفراد والمجتمع من أهم هذه القيم السلبية التوجه الاستهلاكي للمزيد من السلع والبضائع وكثرة الإنفاق غير الرشيد وقد عودتنا حكومتنا المتعاقبة على جدولة رزنامة خاصة بهدف توفير أكبر كمية من السلع استجابة لازدياد الطلب عليها وهي بذلك تكرس مفهوما اقتصاديا وخاصة في رمضان يفقد فيه هذا الشهر جزء كبير من روحانيته التي يجب أن تكون وتقلل من اثر نتائجه في تربية النفوس
لقد كان شهر الصوم عند القدماء محطة مهمة لتحقيق الانتصارات الكبرى للامة ولذلك نجد جل الأحداث الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية تحققت في رمضان من غزوات الرسول الى مختلف الفتوحات الإسلامية وخير مثال على ذلك ثورتنا الجزائرية فلقد كان شهر رمضان. بالنسبة لها أهم شهر لشحذ الهمة في التجنيد والجهاد والانتصار وإظهار اللحمة الوطنية وهذا من عوامل التي جعلته شهرا يختلف عن كل الشهور في جميع البلدان .
أن رمضان من المفروض يكون ورشة متاحة سنويا للمجتمع والأفراد والمؤسسات الرسمية يتم فيها التدريب والتمرن على ضبط السلوك الاستهلاكي وفق قواعد التنظيم والاقتصاد المخطط بالتقليل من الاستهلاك العشوائي وغير المفيد وأن نتعلم منه طرق التكيف مع وضعيات قد نتعرض فيها إلى شح للموارد في الأزمات والحروب ،إن رمضان مدرسة عملية لعقلنة السلوك الاستهلاكي ومثلما يعتمده الأطباء آلية علاج الأمراض العضوية فانه بالإمكان أن نعتمده ألية فعالة لعلاج الأمراض الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية .
والخلاصة أن للصوم بعد معرفي عميق وتربوي وتدريب على تعديل السلوك الاستهلاكي مهم للمجتمع ولأفراده يجب أن يستثمر سنويا كورشة تطبيقية لتجديد الطاقة وصقل النفوس وتهذيب التصرفات وشحذ الإرادة وتنمية للبعد الروحاني المتعالي وحقن المجتمع المسلم بمصل التراحم والتعاطف والوحدة والترابط العضوي بين كل الفئات الاجتماعية وهذا كله مهم وضروري في بناء أمة قوية قادرة على مجابهة مختلف الوضعيات مهما كانت صعبة .
سراي مسعود