يعتقد الكثير من المتتبعين لشأن مؤسسات الدولة أنّ المجلس الإسلامي الأعلى كان من تأسيس دستور 23 فبراير 1989، بل يرى الموقع الرسمي للمجلس أن تأسيسه يعود إلى دستور 1996، بينما في الحقيقة يعود إنشاء هذا المجلس إلى فترة الفراغ الدستوري الأول، أي خلال حكم الرئيس هواري بومدين في الستينيات من القرن الماضي. كيف تمّ ذلك، هذا ما يجيب عنه هذا المقال:
يعتبر المجلس الإسلامي الأعلى مؤسسة استشارية في الشأن الديني مكلفا على الخصوص بنشر تعاليم الإسلام وتصحيح الفهوم الباطلة لأحكام شريعته اعتمادا على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وجهود السلف الصالح، والدعوة إلى اجتناب التأويلات التحريفية والشاذة للنصوص الشرعية، كما جاء في نصه التنظيمي الصادر في يونيو 1989، تطبيقا لأحكام دستور 1989. وقد عرف المجلس مسارا متباينا في مهامه وتنظيمه وذلك حسب السياقات السياسية التي مرّت بها البلاد منذ تأسيسه في فترة بومدين إلى يومنا هذا.
- المجلس الإسلامي الأعلى غائب في دستور بن بلة
لم يول دستور أحمد بن بلة الصادر في 1963 أي مكانة للمجلس الإسلامي الأعلى. لقد اكتف هذا الدستور بالنص على حكم “الإسلام دين الدولة، وشرط التدين بالإسلام لمرشح الرئاسة، وتأدية القسم وهو خال من كل مرجعية دينية إسلامية. كما تمّ في أول حكومة ترأسها أحمد بن بلة إنشاء وزارة الحبوس بقيادة الإصلاحي توفيق المدني. نشير أن دستور بن بلة كان قد نصّ بالمقابل على مؤسستين استشارتين هما: المجلس الأعلى للدفاع والمجلس الأعلى الاقتصادي والاجتماعي. يمكن تفسير ذلك بسيطرة التيار اليساري على تحرير الوثيقة القانونية العليا للبلاد.
- المجلس الإسلامي الأعلى حاضر في النصوص التنظيمية، وغائب في دستور بومدين
من مفارقات فترة بومدين تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى بمقتضى مرسوم، وعدم إقراره في دستور 1976، حيث اكتفى هذا الأخير بالنص على مؤسسة استشارية واحدة هي المجلس الأعلى للأمن، كما سبق الإشارة إليه في مقالنا السابق.
إذن تمّ إنشاء المجلس الإسلامي الأعلى تحت إشراف وزير الأوقاف، بمقتضى المرسوم رقم 66–45 المؤرخ في 18 فبراير 1966، وكانت من مهامه الأساسية إعطاء الصورة الحقيقية للإسلام وإزالة ما عُلق بالعقيدة الإسلامية من زيف وأوهام، وبعث التعليم الديني، وإحياء التراث الوطني بنشر المخطوطات العربية بصفة عامة والجزائرية بصفة خاصة المتعلقة بالإسلام وتعريب كل مؤلف ديني له علاقة بهذا التراث. كما كان المجلس الإسلامي مكلفا بإصدار الفتاوى الدينية للهيئات الرسمية وغير الرسمية، والتوجيه الروحي عن طريق الدرس والوعظ وبواسطة المحاضرات والمقالات الصحفية، وتوثيق العلاقات مع العالم الإسلامي عن طريق التعاون الفكري واثبات الوجود الجزائري في كل الحركات الإسلامية ومواجهة التيارات الفكرية العالمية، وكذا تشجيع التأليف ونشر المؤلفات الدينية وترجمتها.
وكان المجلس الإسلامي حسب هذا المرسوم يتألف من 11 عضوا دائمين، من بينهم الرئيس ومن 19 عضوا غير دائمين. يقوم وزير الأوقاف بتعيين الأعضاء، فيما يتم انتخاب الرئيس من قبل الأعضاء الدائمين وغير الدائمين بأغلبية الثلثين ولمدة عام، على أن يتم تعيين الرئيس عند التأسيس الأول من قبل وزير الأوقاف الذي يبقى الرئيس الشرفي للمجلس. وتتخذ قرارات المجلس بالأغلبية المطلقة، وعند تعادل الأصوات يرجح صوت الرئيس. نشير أنّ أول رئيس للمجلس الإسلامي الأعلى هو الإصلاحي الشيخ عباس بن شيخ الحسين، وكان ذلك في عهد وزير الأوقاف والشؤون الدينية العربي سعدوني، ثم استقال الشيخ عباس بعد مجيء الوزير مولود قاسم نايت بلقاسم. كما ترأس المجلس الشيخ أحمد حماني من سنة 1972 إلى غاية 1987.
وقد تزامن ميلاد هذا المجلس مع بروز الحركة الإسلامية في الجزائر التي تزعمها في تلك الفترة أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أمثال الشيوخ: مصباح حويذق وعبد اللطيف سلطاني وعمر العرباوي وأحمد سحنون، إلى جانب جمعية القيم الإسلامية تحت رئاسة الهاشمي التيجاني، والذين اتخذوا من منابر المساجد وسيلة لإيصال خطابهم المعارض للسلطة في الشأن الديني والأخلاقي، وكذا في الاختيارات السياسية والاقتصادية. إنّه باختصار: الإسلام الرسمي في مواجهة الإسلام السياسي المعارض.
نشير أنّ المرسوم تعرّض إلى تعديلين في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي حافظ على المجلس: الأول كان في أبريل 1980، بمقتضى المرسوم رقم 80–120، وفيه تم تغيير عدد الأعضاء، حيث أمسى يتكون المجلس من 25 إلى 40 عضوا دائمين، كما تمّ إنشاء مكتب يتكون من 7 أعضاء، و4 لجان هي: لجنة الفتوى والدعوة والتوجيه، ولجنة التعاليم الإسلامية والعناية بحفظ القرآن، ولجنة إحياء التراث الإسلامي ولجنة العلاقات الخارجية. أمّا التعديل الثاني، فقد حدث في فبراير 1987، ولم يأت بجديد يذكر من حيث المهام والتنظيم، حيث خصّت أغلب الأحكام طرق تعيين الرئيس والأعضاء وكذا تحديد طريقة منح المرتبات وميزانية المجلس.
- دسترة المجلس الإسلامي الأعلى لأول مرّة في دستور الشاذلي بن جديد: مهام حضارية وثقافية تربوية وبروز التيار الإسلامي بقوة
لأول مرّة في تاريخ الدساتير الجزائرية، يتم دسترة المجلس الإسلامي الأعلى في دستور 23 فبراير 1989. وقد تزامنت هذه الدسترة مع الانفتاح الديمقراطي الذي سمح للتيار الإسلامي بالخروج من السرية إلى العلنية ومن العمل الدعوي إلى العمل السياسي. إنها المزايدة السياسية-الدستورية من قبل السلطة قصد احتكار الشأن الديني من قبل هيئات رسمية.
بمقتضى هذا الدستور، أصبح المجلس الإسلامي الأعلى تابعا لرئاسة الجمهورية بدل وزارة الشؤون الدينية كما كان عليه في السابق. كما أصبح يتكون من 11 عضوا يعينهم رئيس الجمهورية بدل وزير الشؤون الدينية، من بين الشخصيات الدينية الذين يقومون بانتخاب رئيس المجلس. وقد قام المرسوم الرئاسي رقم 91–179 المؤرخ في 28 مايو 1991 بتفصيل مهام المجلس وعمله وتسييره. فمن حيث المهام، يتولى المجلس -إلى جانب الاهتمام بالعقيدة وإصدار الفتاوى، كما كان عليه في السابق- بترقية الوعي الإسلامي وإذكاء إحساس المواطن بمشكلات التحدي الحضاري، وتجنيب الصحوة الإسلامية السقوط في متاهات الشكليات والطقوس والهامشيات، والدعوة والحث على الاهتمام بفضائل العلم والعمل وتدارك التخلف واللحاق بركب التقدم. كما يقوم المجلس بإبراز فضائل الإسلام في محتواه الذي أراده الله أن يكون منارة للإنسانية وقدوة للحضارة وملاذا لكل مؤمن، والتنبيه والتنديد بأية ممارسة مخالفة للخلق الإسلامي طبقا للمادة 9 من الدستور، والعمل على ترقية الدراسات الفقهية والمقارنة، خصوصا في مجال فقه المعاملات وكيفية تنظيم الزكاة واستغلال الأملاك الوقفية.
في المجال الثقافي والتربوي، يتولى المجلس السهر على انسجام برامج التربية الإسلامية مع تعاليم القرآن والسنة، والنهوض بالثقافة الإسلامية عن طريق تجديد الفكر وشحذ العقل وإيقاظ الوعي الإسلامي القادر على استيعاب الماضي وتفهم أبعاد الحاضر والمستقبل اعتمادا على قوانين العلم وأساليب الحياة المعاصرة في إطار قيم الإسلام الجوهرية. كما يقوم المجلس بتتبع ما ينشر عن الإسلام والتراث الإسلامي من بحوث ودراسات في الداخل والخارج قصد الانتفاع بما فيها من رأي صحيح، أو مواجهتها بالرد والتصحيح، وهو مخول بتمثيل الجزائر في المؤتمرات والندوات والملتقيات العلمية الإسلامية التي لها علاقة بمهمته.
وضع المرسوم الرئاسي شروطا يجب أن تتوفر في أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى، تتمثل في إحراز الجنسية الجزائرية وبلوغ أربعين سنة من العمر والتمتع بخلق رفيع، إلى جانب مؤهلات في العلوم الإسلامية تثبتها شهادات أو دراسات ومؤلفات منشورة. وبإمكان رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس الحكومة استشارة المجلس أو طلب أي دراسة تدخل ضمن مجال اختصاصاته. من حيث التنظيم، يحتوي المجلس الإسلامي على ثلاث مديريات للدراسات والبحث تختص تباعا بميدان البحث في القرآن والسنة ودراستهما، وبالفقه والفلسفة الإسلامية وبالترقية الحضارية والتراث الإسلامي. كما للمجلس نشرية دورية تنشر بها فتاوى المجلس وقراراته بعناية الأمين العام.
لقد جاء إصدار هذا المرسوم (نهاية مايو 1991) في ظروف سياسية عويصة تميزت بسيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الأحداث السياسية، خاصة بعد إعلانها عن الإضراب وتنظيم الاعتصامات بالساحات العمومية قصد تغيير قانوني الانتخاب والدوائر الانتخابية. وقد حاولت السلطة بهذا العمل استرجاع الفعل الديني واحتكاره لصالحها بعد أن لاحظت سيطرة الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها جبهة الإنقاذ على أغلبية المساجد والخطاب الديني.
- المجلس الإسلامي الأعلى في دستور نوفمبر 1996 وإعادة النظر في مهامه في ظل الأزمة الأمنية
تمّ تعديل أحكام المجلس الإسلامي الأعلى في دستور 1996، مسّ مهامه وتشكيلته. يتولى المجلس بمقتضى هذا الدستور: الحث على الاجتهاد وترقيته، وإبداء الحكم الشرعي فيما يعرض عليه، ويرفع تقرير دوري عن نشاطه إلى رئيس الجمهورية. ويتكون المجلس من 15 عضوا منهم الرئيس، أي بإضافة أربعة أعضاء مقارنة بالدستور السابق، يعينهم رئيس الجمهورية من بين الكفاءات الوطنية العليا في مختلف العلوم، بدلا من الشخصيات الدينية، كما كان في دستور 1989. وتماشيا مع هذه الأحكام الدستورية، تمّ إصدار المرسوم الرئاسي رقم 98–33 المؤرخ في 24 يناير 1998 المحدد لكيفيات التكفل بالمهام الاستشارية للمجلس الإسلامي الأعلى والقواعد المتعلقة بتنظيمه وسيره، وذلك مكان المرسوم الرئاسي الصادر في مايو 1991 تطبيقا لدستور 1989.
وقد جاء هذا المرسوم الرئاسي بأحكام جديدة تعبر عن الأزمة الأمنية التي مرّت بها البلاد في التسعينيات من القرن الماضي. أكّد النص التنظيمي أنّ المجلس الإسلامي مؤسسة وطنية مرجعية واستشارية ، يقوم بتطوير كل عمل من شأنه أن يشجع ويرقي مجهود التفكير والاجتهاد، مع جعل الإسلام في مأمن من “الحزازات السياسية” بفضل التذكير بمهمته العالمية والتمسك بمبادئه الأصيلة المنسجمة مع المكونات السياسية للهوية الوطنية والطابع الديمقراطي والجمهوري للدولة. وفي هذا الإطار لا يمكن بأي حال أن تحل أراء المجلس الإسلامي الأعلى محل صلاحيات الهيئات التشريعية المتمثلة في البرلمان بغرفتيه، أو تحل محل صلاحيات المجلس الدستوري والمجالس القضائية أو تمسها. من الواضح أن المرسوم الجديد أعاد النظر في المهمة التي خولها له النص السابق فيما يخص التنبيه والتنديد بأية ممارسة مخالفة للخلق الإسلامي طبقا للمادة 9 من الدستور، وهذا ما يعطي للمجلس صلاحية شبيهة بالمراقبة الدستورية لأفعال الحكومة ومؤسسات الدولة. نشير أن السلطة فضلت تعيين شخصيات غير دينية على رأس المجلس، على غرار المرحومين الدكتورين عبد المجيد مزيان وبوعمران الشيخ.
- المجلس الإسلامي الأعلى في دستوري 2016 و2020
حافظ دستوري 2016 و2020 على أحكام دستور 1996 فيما يخص المجلس الإسلامي الأعلى. بينما تمّ تعديل المرسوم الرئاسي للمرّة الثانية وذلك في أبريل 2017. ولم يأت هذا المرسوم بجديد في مهام المجلس، حيث أكد على ضرورة جعل الإسلام في مأمن من كل توظيف سياسي وذلك بالتذكير بمهمته العالمية والتمسك بمبادئه الأصيلة. غني عن البيان أن مسألة استعمال الدين لأغراض سياسية تجاوزت حتى الخطوط الحمراء، خاصة بمناسبة الانتخابات الرئاسية أو التشريعية، كما هو حاصل هذه الأيام خلال الحملة الانتخابية بمناسبة التشريعيات المقبلة، والغريب هو أنّ حتى الأحزاب غير المحسوبة على التيار الإسلامي أصبحت تستعمل الخطاب الديني في دعايتها الانتخابية رغم حضرها دستوريا وقانونيا.
أخيرا نشير إلى أنّ المجلس الإسلامي الأعلى يرأسه حاليا الشخصية الدينية عبد الله غلام الله الوزير السابق للشؤون الدينية والأوقاف، ويضم ضمن أعضائه امرأتين دكتورتين إلى جانب دكاترة مختصون في مختلف المجالات، منها الفلسفة، كما يضم عضوين يرأسان زاويتين هما زاوية الهامل وزاوية أدرار.
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر