أقلام

نحو مراجعة براديغم “نهاية التاريخ” لفوكوياما

نشرت دائرة البحوث التابعة للمجلة البريطانية “ذي إيكونوميست” (The Economist) في سنة 2021، دراسة تتعلق بتراجع الديمقراطية في العالم، حيث أشارت أنّ6,4 % فقط من سكان العالم يعيشون في بلدان ديمقراطية وفق المعايير التي حدّدتها دائرة البحوث التابعة للمجلة والتي مست 165 دولة في العالم، من بينها 21 دولة فقط تلبي هذه المعايير وهي تتمثل في خمس نقاط: التعددية السياسية، العمليات الانتخابية، طريقة تسيير الحكومة، الثقافة الديمقراطية وأخيرا الحريات المدنية.
وبغض النظر عن مدى صلاحية هذه المعايير التي تبقى نسبية ومعبرة عن نظرة مركزية غربية بامتياز لمفهوم الديمقراطية، فإن نتائج الدراسة في حدّ ذاتها تطرح أكثر من تساؤل حول براديغم “نهاية التاريخ” للمفكر الأمريكي ذي الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما. فمن أين استقى هذا الأخير مفهوم “نهاية التاريخ”؟ وكيف نحته فوكوياما من جديد؟ وهل يحتاج إلى مراجعة بعد ثلاثة عقود من نشر كتابه المميز: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” (THE END OF HISTORY AND THE LAST MAN) الصادر سنة 1992.
1- مفهوم “نهاية التاريخ” في الفكرين: الديني والفلسفي
بادئ ذي البدء، تجدر الإشارة إلى أنّ مفهوم “نهاية التاريخ” كممارسة تأملية قديم قدم الفكر الإنساني؛ فهو له علاقة أولا بالفكر الديني، حيث اعتقد وآمن الإنسان منذ إرساء الحضارات الأولى بفكرة نهاية العالم المندمجة بالتاريخ. وتتجلّى هذه الفكرة بالخصوص لدى الأديان السماوية؛ هكذا، نجد أن فكرة نهاية التاريخ عند اليهودية مرتبطة بقاعدة “الاصطفاء الإلهي”، فهو شعب الله المختار، والأرض لم تخلق إلّا للشعب اليهودي، ومنه فنهاية التاريخ قائمة على مبدأ تحقيق العالمية اليهودية وفق العهد الإلهي والتي تتجلى في مملكة إسرائيل الكبرى.
ويتجسد مفهوم نهاية التاريخ عند المسيحية بفكرة الخلاص التي تتجسد عندما تتحد الأقانيم الثلاثة أي الأب والابن وروح القدس، مُشكّلة المطلق. أما في الإسلام، فيتجسد نهاية التاريخ في اعتباره آخر الرسالات، ورسوله آخر الأنبياء. ومع ذلك يختلف المذهب السني عن الشيعي في رؤية نهاية التاريخ، إذ يكمن عند السنيين في فكرة التمكين لله وفقا للخطاب القرآني “أنتم الأعلون” والذي لا يتحقق إلّا بنشر الإسلام في ربوع العالم وتحقيق العالمية الإسلامية. أمّا الشيعة، خاصة المذهب الجعفري، فتتجلى نهاية التاريخ بعودة الإمام المغيب الذي يحقق نهاية التاريخ بإنهاء الشر وتحقيق الخير المطلق.
اهتم الفلاسفة منذ القدم بفكرة نهاية التاريخ؛ هكذا جعل أفلاطون من المفهوم حتمية ديالكتكية، تحدث عندما يختفي الشبح ويبرز المثال متعاليا عن كل ما هو مادي. فيما اعتبر تلميذ أفلاطون، أرسطو طاليس نهاية التاريخ حتمية اجتماعية مبنية على الأنا المتعالية التي يمثلها المواطن الأثيني والقوة التي تتجلى في الحرب العادلة التي تهدف إلى أنسنة المتوحش وهو ما حاول القيام به تلميذه ألكسندر المقدوني.
لم يغب مفهوم نهاية التاريخ عند الفلاسفة الغربيين؛ ينطلق جورج هيجل من مبدأ أن التاريخ لا يتجلى كأحداث إلّا في حركة الفكرة والنقيض، ونهاية التاريخ ترتكز عنده على المبادئ المسيحية، فنهاية التاريخ حدثت أول مرة لما تجلّى الإله في الإنسان الذي جسّده المسيح، وستحدث للمرة الأخيرة عندما يتحد الإله مع العرق الآري المتفوق، ونصل بالتالي إلى إدراك المطلق داخل نطاق الدولة. لقد اعتبر هيجل نابليون بونابرت هو الرجل الأخير والتاريخ سينتهي بانتهاء فتوحاته، وكان يرى أن جواده ما هو إلا الروح والعقل. في المقابل يرى كارل ماركس أن التاريخ بدأ حين قال الإنسان هذا لي، وسينتهي حين يقول هذا لنا وإحلال الشيوعية.
2- مفهوم نهاية التاريخ عند فوكوياما
عبّر فوكوياما -الذي كان مستشارا للرئيس رونالد ريغن- عن مفهومه لنهاية التاريخ في مقال نُشر في عام 1989 بدورية ناشيونال إنترست (National Interset). وقد نشر المقال في سياق انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، وتكمن خلاصة مقاله في أنّ تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولّى بغير رجعة مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشيوعي واندثار حلف وارسو وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية”. ونظرا للشهرة السياسية المتبوعة بالاهتمام الأكاديمي للمقال، حوّل فوكوياما فكرته إلى كتاب صدر في سنة 1992، حيث فصّل ما جاء في المقال تفصيلا مؤكدا على نهاية الإيديولوجيات وإحلال السلام العالمي وانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية. وتقوم فكرة نهاية التاريخ لفكوياما على عناصر ثلاثة هي:
• أن الديمقراطية الحديثة بدأت في النمو منذ بداية القرن 19م مع انتشار أفكار الثورة الفرنسية، حيث أصبحت بالتدرج بديلا حضاريا في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الديكتاتورية؛
• فكرة الصراع التاريخي بين السادة والعبيد لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق؛
• الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنها أن تنافس الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فالمستقبل سيكون للرأسمالية أو للديمقراطية الاجتماعية.

3- نقد الأطروحة وتراجع الديمقراطية
تجسّدت أول نكسة لأطروحة نهاية التاريخ في التجربة الجزائرية التي شهدت مع صدور دستور 1989، محاولة لدخول البلد نهاية التاريخ بالمفهوم الفوكويامي. لقد فتحت الوثيقة الدستورية التعددية السياسية والعمليات الانتخابية ودعمت الحريات السياسية والنقابية والمدنية وأرست لثقافة ديمقراطية بين المتنافسين السياسيين. غير أن التجربة الجزائرية لم تدم أكثر من ثلاث سنوات حيث تزامن صدور كتاب نهاية التاريخ مع إيقاف الدور الثاني من الانتخابات التشريعية في يناير 1992 بحجة حماية الديمقراطية من الذين كفّروها. كما عرفت الأطروحة نقدا سياسيا ومعرفيا من قبل عديد المفكرين من بينهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي أعلن أن كتاب نهاية التاريخ أصبح وسيلة للتحايل على وسائل الإعلام، حيث تسلّط على الأسواق الكبرى للإيديولوجيات في غربٍ قلقٍ. كما انتقد أستاذ فوكوياما صمويل هنتنغتون فكرة نهاية التاريخ، واقترح تاريخا مغايرا ملؤه الصراعات الحضارية بين أقطاب عالمية متعددة أساسها الاختلاف الديني والثقافي. أما سمير أمين فيرى أنّ تاريخ الرأسمالية يتكون من مراحل متتالية ومتباينة، بعضها يتصف بتحكم قوانين التوسع الرأسمالي يكاد يكون مطلقا، تليها مراحل متباينة تماما، حيث تفرض قوى اجتماعية ذات عقلانية مضادة لعقلانية الرأسمالية أشكال تنمية أكثر رحمة للإنسان وللبيئة.
في سنة 2014، أصدر فوكوياما كتابا جديدا بعنوان “النظام السياسي والاضمحلال: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية”، حيث دافع فيه عن أطروحته السابقة مركزا عمله على الدول الآسيوية والشرق أوسطية والعملية الشاقة لبناء الدولة فيها. وشرح بالتفصيل أسباب الفشل الأمريكي في بناء دول ديمقراطية مستقرة وفاعلة والذهاب إلى نموذج الدنمارك بتعبيره. وكان فوكوياما قد خصص بعض الفقرات من كتابه للإسلام، ورأى أنه ليس قوة امبريالية مثل الفاشية أو الستالينية ولا يحظى بجاذبية ثقافية أو عاطفية خارج معاقله، وأشار أن السعودية وإيران عليهما أن يتحولا إلى ديمقراطيات ليبرالية بمجتمعات مسلمة كتركيا أو مصيرهما الزوال.
4- استنتاج
غني عن البيان أنّ فوكوياما لم يكن بصدد الدفاع عن المبادئ الديمقراطية الغربية بقدر الدفاع عن أمركة العالم وبسط النفوذ العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في كامل القارات. لقد اندثر حلف وارسو، ورغم ذلك حافظت أمريكا وحلفاؤها على حلف الناتو بدعوى محاربة الإرهاب، وتحسبا لهيمنة الصين على جزء من العالم، وربما “لنشر الديمقراطية بالدبابة”. أخذ الحلف الأطلسي يتمدد شرق أوروبا، وبسط نفوذه بدول البلطيق الثلاثة، وكل دول حلف وارسو سابقا. كما ضمّ معظم الدول الناتجة عن تفكك يوغوسلافيا. منذ صدور كتاب نهاية التاريخ، ازداد أعضاء حلف الناتو بـ 14 عضوا، أولاهم كانت كل من التشيك والمجر وبولندا في 12 مارس 1999، وآخرهم مقدونيا الشمالية في 28 مارس 2020، ليصبح العدد الإجمالي 30 عضوا. ويعترف الحلف بكل من جورجيا والبوسنة والهرسك كعضوين طموحين؛ وهذا ناهيك عن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة عبر العالم، والقيادة العسكرية في المحيطين الهندي والهادئ، والقيادة العسكرية الوسطى، والقيادة العسكرية في إفريقيا (أفريكوم)، دون الكلام عن الحوار المتوسطي الذي تشارك فيه الجزائر. إنّ هذه الوضعية الإستراتيجية لأمريكا لم تترك دولا مثل الصين وروسيا مكتوفتي الأيدي، بل سيكون ردّ فعلهما قويا مثل ما هو عليه الحرب الروسية الأوكرانية الذي يبقى هدفه الأساس تجنب انتشار الناتو بحدود الاتحاد الروسي.
في مقال بعنوان: الديمقراطية نحو الزوال؟ نُشر بمجلة (L’OBS) في عددها 2991 الصادر في 17 فبراير 2022، ترى الصحفية “سارة دانيال” أنّ الحريات الديمقراطية تشهد ردّة عبر كل القارات، وتفسر ذلك بعدة عوامل منها: ظهور شخصيات قوية تستعمل الديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم تتراجع عنها في ممارستها السياسية على غرار بوتين الروسي وأردوغان التركي، وكذلك الحروب غير المنتهية بالشرق الأوسط والساحل وأفغانستان، وتطور النموذج الصيني الذي لقي اعترافا لدى الدول الناشئة، ولم تنس الصحفية أيضا ذكر وباء كوفيد الذي شرخ الهوة بين الحكام والمواطنين حتى في الديمقراطيات الغربية، ناهيك عن ظهور اليمين المتطرف في أمريكا والغرب عموما.
بعد تنظيم القمة الافتراضية من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن حول الديمقراطية يومي 9 و10 ديسمبر 2021، قامت الصين -التي لم تُدع للقمة مع روسيا- بتقديم وثيقة تؤكد فيها أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ما هي إلّا “بلوتوكراسي” (ploutocratie)، أي حكم الأثرياء، يتحكم فيها المال والإنسان الأبيض والسلاح ووسائل الإعلام والمركب العسكري-الصناعي والمخدرات. تواصل الوثيقة وتؤكد أن أصل الديمقراطية لم يكن أثينا ولكن إمبراطورية الصين. إنه التاريخ الآخر والنموذج المغاير القادم من الشرق الأدنى، الغائب الأكبر في الدراسات المركزية الغربية.

ملاحظة:
• عنوان المقال من اقتراح الدكتور فارح مسرحي أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة؛
• للمقال مراجع منها: “كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير” لفوكوياما؛ ومقال للباحث عبد القادر بوعرفة تحت عنوان “الأساس الأسطوري لنهاية التاريخ” منشور بمجلة إنسانيات؛ والمقال المنشور في مجلة L’OBS المذكور سابقا.
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقال ممتاز ومهم لكل من يريد فهم جوهر صراع الغرب مع الروس، فمن وجهة نظر الغربيين يرون أن حربهم ضد الدب الروسي هي من قبيل مواجهة ردة تاريخية يقودها بوتين، ولكن هناك نقطة مهمة لابد أن نحسب لها حساب ففوكوياما في كتابه الإنسان الأخير يراهن لا فقط على انتشار الديموقراطية الليبرالية بل يراهن على ثقة الناس المحكومين بها وعلى تطلع الشعوب الأخرى لهذا النمط من الحكم، فهو يصرح بأن الليبرالية الغربية مرت في سيتنيات القرن الماضي لأزمات عاصفة (لو وقعت في أي دولة شمولية لأدت قطعا إلى نهايتها حسب تعبيره) ولكن ثقة النخب والجماهير بقابلية الليبرالية للتقدم وحمل مشعل التاريخ المنتهي هي الذي يراهن عليها….

  2. مقال اكثر من جيد، واستعراض فكري هام ومشوق.. استدرك اغفال نقطة هامة جدا في البناء العام للطرح تعريف فكرة التاريخ في التصور الغربي اي ماهي السلة الذي وضع فيها العلم الغربي بيض التاريخ كله؟؟ العديد من مفكري الثقافة الغربية لديهم الفكرة «نهاية التاريخ» باختلاف التصور بناء على حدين متناهيين.. التاريخ هو مجموع صراع الارادات، و انساق التطور، هذا التصور على متانته لا يخلو من ثغرةالتي هي أصل المسألة، ما الذي يسرّع الاخر صراع الارادات ام تطور الانساق.. بمعنى مثلا.. انتقال الصراع الاوربي- الاوربي من الدين «الاصلاح اللوثري،حرب الفرسان،ثورة الفلاحين» الى صراع الاقتصاد السياسي« طاحونة الاقطاع والة بخار الصناعة».. هل دفعا بأفكار الدولة والسوسيولوجيا والنسيح المعرفي الاوربي قدما ام العكس هو ما حدث؟ واذا نظرنا مليا الى القرن 19وريث قرن التنوير.. نجد «الاشتراكية، الاناركية، الليبرالية العقلية ثم المادية» لا يمكن تصنيفها نتيجة صراع الواقعية والمثالية التي تحدث بهما دون كيخوته سرفانتس، كما لا نستطيع الجزم بكون هذه الامور هي دافع مؤدي تاريخيا الى مرحلة نهائية.. الامر نسبي.. اعجبني جدا انك ذكرت دفاع فوكوياما عن نموذج امريكا العظمى لا عن قيمة نهائية لليبرالية الفاضلة، بالنسبة لنقطة اتخاذ الديمقراطية سلّما كحال بوتن واردوغان.. اعتقد كتاب تمرحل التاريخ لمهدي عامل كفيل بشرح النقطة باستفاضة.. اشكرك جدا.. واحيي افكارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى