التنوير الذي أخذ على عاتقه تحرير الإنسان من عبودية العصور الوسطى بتبنيه للقيم العقلانية وللمبادئ التقدمية فشل في مهمته التنويرية وسقط غي مستنقع العدمية التاريخية وذلك لأن العقلانية التحررية التي حملها تحولت إلى عقلانية أداتية متوحشة وانقلبت إلى وحش ضار غير قابل للترويض يدوس ويحطم كل…
لكي يتوصّلَ المرء إلى الحقيقة، ينبغي عليه مرة واحدة في حياته أن يتخلص نهائيًا من كل الآراء الشائعة التي تربّى عليها وتلقاها من محيطه، ويعيد بناء أفكاره بشكلٍ جذريّ من الأساس. ديكارت.
مقدمة:
يمكن في البداية تعريف عصر التنوير (Age of Enlightenment) بأنه السياق الزمني الذي تخاصبت فيه الجهود الفكرية التنويرية لكبار الفلاسفة والمفكرين أمثال رينيه ديكارت فولتير(René Descartes: 1596-1650) وفولتير – فرانسوا ماري آروويه (François-Marie Arouet:1694-1778) ومونتسكيو- شارل لوى دى هايكوندا (Montesquieu: 1689-1755) ودنيس ديدرو (Denis Diderot: 1713-1784) وكوندورسيه – ماري جان أنطوان نيقولا كاريتات (Marie Jean Antoine Nicolas de Caritat: 1743-1794) (1743-1794) وديفيد هيوم (David Hume: 1711-1776) وإيمانويل كانط (Immanuel Kant: 1724-1804) وإسحاق نيوتن (Sir Isaac Newton: 1642-1727) وبنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin: 1706-1790) وجان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau: 1712-1778) و جون لوك (John Locke: 1632-1704) وآدم سمث (1723-1790) وديفيد ريكاردو (David Ricardo: 1772-1823) ,وجوليان جان أوفري دو لا ميتري (Julien Offray de La Mettrie: 1709-1751).
وقد شكلت أعمال وأفكار هؤلاء المفكرين من مختلف المشارب العلمية والاجتماعية قوة تنويرية هائلة هدفت إلى تحرير المجتمعات الأوروبية من أوهامها الأسطورية والخروج بها إلى عالم المعرفة والتنور والحرية، كما تمثلت هذه الحركة التنويرية في العمل على إخراج المجتمعات الأوروبية من الظلمات إلى النور ومن السلطات الكهنوتية البابوية إلى أنظمة سياسية ديمقراطية وعلمانية. ويمكن القول أيضا إن عصر التنوير وجد صداه الكبير وتأثيره العظيم في مختلف مظاهر الحياة الفكرية الأوروبية في القرنين السابع والثامن عشر.
والتنوير بالتعريف حالة حضارية ذهنية متوقدة، يدك فيها الإنسان جدران الأوهام، ويدمر عبرها أركان الوصاية على العقل بوصفه الجوهر الإنساني في الإنسان إنها وفقاً لمنظور “كانط” الوضعية التي يخرج فيها الإنسان من دائرة الخرافات والأوهام، ليحطم كل أشكال العطالة الذهنية والجمود ومقاليد الوصاية على العقل. وفي هذا كله تأكيد لسيادة العقل وسلطانه حيث لا يكون سلطان فوق سلطانه؛ ولذا غالبا ما يقترن مفهوم العقل بمفهوم النور أو التنوير في الحضور والغياب، يقابله هذا الاقتران الكبير والجوهري بين الجهل والظلام. وضمن توجهات هذه المعادلة التنويرية، يكون حضور العقل حضوراً للتنوير وغيابه حضوراً للجهل والظلام. ومن الواضح تاريخياً في هذا السياق، أن حضور العقل والعقلانية كان في أصل كل حضارة وتقدم، حيث كان العقل، وما ينتجه من حكمة وعلم وبرهان، هو أداة الإنسان لفهم الكون والإفادة الرشيدة من الطبيعة؛ بما يحقق الغايات الإنسانية النبيلة. فالعقلانية هي التي منحت الإنسان القدرة على التحرر من غوائل الطبيعة والانتصار على كل أشكال الضعف والقصور لبناء حضارة الإنسانية والإنسان.
انحراف المسار التنويري:
ومع أن التنوير ولد على صورة حركة إنسانية أخلاقية تحررية في جوهره فقد تعثرت خطاه وانحرف مساراته وفسدت مراميه ومآلاته وسقطت تطلعاته الإنسانية والأخلاقية في سياق تطوره التاريخي والحضاري، وانتهى به الأمر به إلى الانقلاب على مسيرته الواعدة بتحرير الإنسان إلى قوة استلابية تحاصر الإنسان وتضعه في مهاوي الاغتراب وزنزانات البؤس والاستلاب. وتحولت الحداثة التنويرية فيما بعد إلى دريئة تتقاذفها السهام من كل حدب وصوب وجانب.
وعليه تعرضت الحضارة الغربية بنهضتها وحداثتها وأنوارها إلى النقد العنيف من قبل كبار الفلاسفة والمفكرين منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، ودأب كبار المفكرين على نقد أبنية الحضارة الغربية والكشف عن التناقضات الكبيرة في مسيرة التنوير الغربي. ومن يطالع مسيرة التفكير الفلسفي سيجد بأن هذه الحضارة قد تعرضت للنقد الشديد من قبل ماركس وفرويد ونيتشة وكانط وروسو وعدد كبير جدا من المفكرين والباحثين، ويتمركز هذا النقد على المسيرة الانحرافية للحضارة الغربية التي أدت إلى صيغ متعدد من الشقاء الإنساني والبؤس الأخلاقي. ويبدو واضحا للعيان أن المشروع الحضاري الغربي قد أنتج الحروب العالمية المدمرة وأدى إلى استعمار الشعوب وانتهى إلى وضع الإنسانية في أقفاص الشقاء الاغترابي.
ومن منطلق هذه الرؤية السوداوية لوضعية التنوير لم يتردد ألبرت شفايتزر (AlbertSchweitzer;1875-1965) الحائز على جائزة نوبل للسلام في الإعلان بأن العالم يسير نحو الهاوية وإننا نعيش في ظل انهيار الحضارة الإنسانية، وعلى خطاه دأعلن الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر (Oswald Spengler:1880-1936) في كتابه (انحدار الغرب) أنّ الحضارة الغربية تتساقط وتلفظ أنفاسها الأخيرة وقد حكم عليها بالموت والدمار. وقد سبق للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه “Nietzsche” (Friedrich Nietzche:1844-1900) أنه أعلن أن الحضارة الغربية سقطت في الهاوية واختلت موازينها الأخلاقية. والحضارة المعاصرة وهذا كله يتساوق مع نظرية سيغموند فرويد الذي يعلن بدوره عن تآكل هذه الحضارة إذ يقول “نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية”.
نقد مدرسة فرانكفورت:
وجاءت مدرسة فرانكفورت النقدية لتعزز هذا المسار في نقد الحضارة الغربية فاتخذت من النقد منهجا لها، وحاولت القيام بممارسة نقدية جذرية للحضارة الغربية؛ قصد إعادة النظر في أسسها ونتائجها على ضوء التحولات السياسية الكبرى التي أفرزتها الحداثة الغربية، وخاصة منذ “عصر الأنوار” (Age of Enlightenment) الذي يعتبر نقطة تحول جوهرية في مسار هذه الحداثة، وقد كرس رواد هذه المدرسة جهودهم للكشف عن الأوضاع الاغترابية للحضارة الغربية ونقد الأسس التي تقوم عليها كالحرية والعقلانية والتقدم العلمي والتقني وقد برع رواد مدرسة فرانكفورت في تأصيل منهجهم النقدي واعتماده في تناول قضايا المجتمعات الرأسمالية وتفكيك مختلف التكوينات الاجتماعية واستكشاف مختلف التناقضات الكامنة في طبيعة هذه المجتمعات.
ومن الأهمية بمكان أن رواد فرانكفورت اعتمدوا النقد بوصفه قوة أساسية في عملية تحقيق التغيير وإنجاز التقدم الحضاري. وقد ساعدهم في تحقيق ذلك تخاصب الاهتمامات والتخصصات العلمية المتنوعة لرواد المدرسة الذي توزعوا في قطاعات مختلف شملت علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد والأدب وغير ذلك من التخصصات العلمية التي شكلت في مجموعها قوة نقدية هائلة وظفت فعليا في تفككيك بنية المجتمع الرأسمالي ونقده، وقد امتدّ هذا النقد ليشمل الحضارة الغربية برمتها منذ عصر النهضة حنى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وقد ألح رواد مدرسة فرانكفورت على النظر إلى الحداثة الغربية بوصفها كارثة ضربت بقوة في العمق الإنساني للحضارة، وذلك لأنها خرجت عن مسارها وابتعدت عن غاياتها الإنسانية في تحقيق الكرامة والحرية للإنسان. فالحداثة قامت في جوهرها على العقل وآمنت بالحرية والتقدم ومن ثم انتهت إلى قوة ضد العقل والعقلانية فانتهكت حرية الإنسان وكرامته ووضعته في زنزانات القهر والعبودية، واستطاعت في مسار انحرافها عن مسارها الحضاري أن تحول “الكائن البشري من كيان واع وروح متعالية إلى عضو خاضع وجسم مادي وكيان بلا روح؛ لقد أصبح الإنسان بفعل التقدم الهائل في الأبحاث العلمية والإنتاجات التقنية مجرد رقم ضمن معادلات حسابية هاجسها الربح والنجاح ضدا على الكرامة الإنسانية والأخلاق البشرية”.
ويمكن القول في هذا السياق إن “مدرسة فرانكفورت” قامت منذ نشأتها على نقد جذري لمشروع التنوير بوصفه أحد أهم مظاهر الحداثة وأبرز تجلياتها الحضارية ويتضح هذا التوجه النقدي في جهود كل من هوركهايمر وأدوورنو في كتابهما المشهور “جدل التنوير” الذي يتضمن رؤية نقدية صارمة نقدية يتناولان فيها مآلات عصر التنوير في استطالاته الحضارية الاغترابية .
ومما لا شك فيه أن النقد العنيف الذي وجهه رواد النظرية النقدية إلى التنوير والعقلانية لم يكن نقدا للتنوير في ذاته أو للعقل في مقامه أو لقيم التنوير في بهائها بل كان نقدا للصيرورة الحضارية التاريخية التي أدت إلى انتكاسة التنوير في ظلِّ تطور المجتمع الرأسمالي والصناعي وفي ظل علاقاته المُكَرَّسَة لاستعباد الإنسان واستلابه. ويسجل التاريخ أن رواد المدرسة لا يقفون موقفا معاديا للتنوير في جوهره بل يقفون ضد مظاهر اللاعقلانية التي انتهى إليها بفعل متغيرات وعوامل فكرية واجتماعية متداخلة. وهم باختصار يوجهون النقد إلى مآلات التنوير، ويرون بأن المشروع التنويري قد أخفق في تحقيق غاياته وتحقيق قيمه الإنسانية التحررية، وأنه قد تحول على الأثر إلى قوة مضادة للإنسان والإنسانية بما صار عليه وبما أنتجه من كوارث التسلط والاستبداد السياسي والاجتماعي. وقد هالهم تماما أن يؤدي التنوير في نهاية المطاف إلى ولادة أكثر الأنظمة السياسية والاجتماعية فتكا واستبدادا بالإنسان والإنسانية. ووقع في أيديهم أن التنوير قد أنتج أخطر الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي تتمثل في الحركات النازية والفاشية والستالينية وهو المر الذي انتج أخطر حربين عالميتين (الأولى والثانية) وهما الحربان اللتان دمرت الحجر والبشر والشجر وأوقعت عشرات الملايين من الضحايا البشرية بما فيه الأطفال والنشاء والرجال.
جاء القرن العشرون كما يرى رواد المدرسة ليدمر أحلام التنوير ويكشف عن سقوط الأوهام التي جاء بها عصر النّهضة المحمل بوعود المجتمع الإنساني الخلاق، وقد دشنت وعود الحداثة بأعظم حربين مدمرتين للوجود الإنساني (الحربان العالميتان الأولى والثانية) وكان القرن العشرون محملا بوعود الموت والفناء والإبادات العرقية والسياسية التي تمثلت في الهولوكست ومعسكرات الأوشفيتز في ألمانيا النازية، ومعسكرات الغولاغ في روسيا الستالينية، وقنابل التدمير الذرية في ناكازاكي وهيروشيما، وعلى هذه الصورة المأساوية تحول مشروع التنوير إلى قوة مضادة للتنوير بكل ما ينطوي عليه من قيم تحررية ومبادئ إنسانيةوقد أدت هذه الوضعيات الكارثية إلى تداعي كل الأحلام والآمال التي حملها عصر التنوير وإلى نمو هائل للشَّكِّ والارتياب في مشروع الحداثة والتنوير .
وجاءت معسكرات الإبادة الجماعية لليهود (معسكرات أوشفيتز لتكون “الحدث الفاصل الذي حطم الافتراضات المتفائلة حول التقدم من أساسها أكثر مما فعل زلزال لشبونة خلال القرن الثامن عشر. ولما كانت صور معسكرات الاعتقال النازية لا تزال ماثلةً في الأذهان، ومع تدمري هووشيما وناكازاكي، وظهور تقارير جديدة عن المعتقلات السوفييتية (الجولاج)، ومع تزايُد انتشار المكارثية في الولايات المتحدة؛ بدا لمدرسة فرانكفورت كأن الحضارة الغربية لم تأت بالتطور الإنساني، وإنما أتت بنزعة بربرية غري مسبوقة. وأدرك أعضاء المدرسة أن شيئًا أكثر من النقد المعتاد للرأسمالية مطلوب من الفكر الراديكالي”
مآلات التنوير:
وليس ألعن من ذلك ما شهده العصر الجديد –القرن العشرون- من وقوع البشرية جمعاء تحت سطوة الهيمنة الاستعمارية للشعوب والأمم. وقد عزا رواد المدرسة النقدية هذه الكوارث إلى فشل مشروع الحداثة والتنوير وهو المشروع الذي أدى في النهاية إلى نتائج معاكسة للمبادئ والقيم الذي طرحها حول تحرير الإنسان والإنسانية من الظلم والقهر والاستعباد والاستبداد. لقد شاهد رواد المدرسة النقدية صور الإبادة العرقية لليهود في المعتقلات النازية وبقيت هذه الصور ماثلة في أذهانهم، ” ومع تدمير هيروشيما وناجازاكي، وظهور تقارير جديدة عن المعتقلات السوفييتية (الجولاج)، ومع تزايُد انتشار المكارثية في الولايات المتحدة؛ بدا لمدرسة فرانكفورت كأن الحضارة الغربية لم تأتِ بالتطور الإنساني، وإنما أتتْ بنزعة بربرية غير مسبوقة، وأدرك أعضاء المدرسة أن شيئًا أكثر من النقد المعتاد للرأسمالية مطلوب من الفكر الراديكالي ”
ولذا لم يقف رواد المدرسة عند حدود نقد التنوير والحضارة الغربية فحسب بل تجاوزه إلى البحث عن الأسباب التي غيرت وجه التنوير فحولته إلى قوة مضادة للإنسان والإنسانية وقدموا أنظمة فكرية متكاملة من التفسيرات السوسيولوجية والتحليلات الواقعية لعملية التحول الخطير للتنوير إلى حركة ظلامية خطيرة فقد فيه الإنسان كيانه ووجوده وكرامته.
يرى رواد المدرسة النقدية -ولاسيما هوركهايمر وأدورنو- بأن حركة التنوير قامت على مواجهة الأساطير والخرافات والأوهام التي سادت إبان العصور الوسطى، واتجهت إلى فك السحر عن العالم وتحريره من التقاليد الكنسية والأساطير الاستلابية الدينية، ولكن هذه التنوير أوقع نفسه في شباك أساطيره الخاصة المميتة المتمثلة في جبروت الأنظمة وفي مختلف أشكال الاستبداد الفكري والأخلاقي التي ضربت قيم الحضارة الإنسانية بمقتل، فقضت على الشكل الأمثل للعقل والعقلانية في مختلف أصقاع القارة الأوروبية. وعلى هذا النحو أصبح الإنسان الغربي في صراعه مع الوحوش الأسطورية وحشا ثم أوقعته معاركه أجل السيطرة على الطبيعية في عبودية جديدة لا تقل خطرا وإيلاما عن استبداد الأساطير القديمة.
فالمشروع التنويري كما يرى رواد المدرسة مني بالإخفاق وفشل كليا في أداء مهمته التاريخية التي تتمثل في إخراج العقل من الدوائر الأسطورية للأوهام وتحطيم الأوثان التيولوجية وتدمير مظاهر الخرافات والتفكير اللاعقلاني. فها هو العقل الذي رفعه التنوير شعارا يرتد على ذاته ويتحول قوة استلابية تدميرية لإنسانية الإنسان وكرامته، وهو العقل ذاته الذي تغوّل على الطبيعية والإنسان، يتغول على الإنسان نفسه فيبتعه ويحوله موضوعا للهجانة الأخلاقية أي إلى كائن مفرغ من معانيه ودلالته الإنسانية. وعلى هذه الصورة تمّ تحويل الإنسان إلى مادة أولية تستثمر في خدمة المصالح الرأسمالية للطبقات البرجوازية التي تسود وتسيطر وتهيمن على مقدرات الحياة الاقتصادية في المجتمع.
وهذا كله يعني أن الأنوار قد تحول إلى قوة همجية تدميرية للإنسانية والإنسان بفعل العقلانية المتوحشة التي انتهجها في السيطرة على الطبيعية والإنسان. وعلى هذا النحو اتجهت أطروحات المدرسة إلى محاولة البرهنة على أن عقلانية المشروع الثقافي الغربي في جوانبه الثلاثة: كنتاج فلسفي نظري علمي، ونظم اجتماعية تاريخية، ونسق قيمي سلوكي، تؤلف جميعها أيديولوجيا شمولية متكاملة ومتماسكة، تهدف إلى تبرير التسلط، وجعله عقيدةً وحيدة تغطي أولويات القمع المتحققة كواقع مستمر يجمع مختلف فعاليات هذا المشروع.
أوديسيوس وفشل التنوير:
وإذا كان هدف التنوير العقلي تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها ومساعدتهم على بلوغ الرشد ” فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!) — هكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّر نفسه بنفسه ” وهذا يعني أن العقـل ارتد على ذاته وحطـم نفسـه وانتهى إلى أسطورة مضادة للعقل، وهـذا مـا أشار إليه هوركهايمر وأدورنو بقولهما: ” استقى التنوير جوهر مادته من الأساطير مع أنه كان يريد القضاء عليها، وحين مارس وظيفة الحكم ظل واقعاً أسير سحرها” وعلى هذا المنهج الأسطوري يوظف رواد المدرسة النقدية الأسطورة الأغريقية أوديسيوس ويوظفون رمزيها في تناولهم النقدي للمظاهر الاستلابية في الحضارة الغربية ثم يستلهمون معانيها الرمزية الدلالية في تفسير سقوط الحضارة الغربية وعدميتها التاريخية.
وأوديسيوس كما باللغة اليونانية (Ὀδυσσεύς) (بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس) وملك إيثاكا الأسطوري الذي ترك بلده كي يشارك في حرب طروادة الشهيرة، وهو وصاحب فكرة الحصان (حصان طروادة) التي هزمت الطرواديين. وتذكر الأسطورة صديق أوديسيوس المحبب قتل في المعركة فأصيب بنوبة غضب شديدة قادته إلى أن يلعن الآلهة فاستشاط بوسيدون إله البحر وعاقبه بالضياع في متاهات البحار وأمواجه لمدة عشر سنوات في رحلة عودته للوطن، وقد لاقى في رحلة العودة هذه أهوالا كثيرة وأحداثا مرعبة ومخيفة.
وقد جاء في الأسطورة أن حوريات البحر (أو عرائس البحر) كنّ ينشدن أغان سحرية للغاية تتميز بجمال الألحان وسحر الأصوات التي تفوق حدود الوصف في مدى قدرتها على الاستلاب السحري لمن يسمعها، إذ لا يمكن لمن يسمع أن يقاوم جمال هذه الأصوات وسحرها الملائكي الأخاذ فيستسلم لهن ويبقى إلى جوارهن عبدا صاغرا إلى الأبد.
ولما مرّ أوديسيوس في رحلته عودته المعذبة إلى الوطن هاله أن يقع في أسر الغانيات وأن يخضع لغوايتهن ولذا ومن أجل أن يحافظ على كيانه ووجوده اتخذ إجراءات صارمة لحماية نفسه وبحارته من قدر الأسر والاستسلام للحوريات فأمرهم أن يضعوا الشمع في آذانهم كي لا ينتهي بهم الأمر إلى سماع شدو الحوريات وكي لا يقعوا في أسر غوايتهن، ثم ومن أجل حماية نفسه أيضا طلب من بحارته أن يقيدوه بقوة إلى “صاري” السفينة وأن يشدّو قيده كلما ازداد الغناء وكلما اشتدت حلاوته كي لا يكون مصيره الاستسلام والسقوط في عبودية الساحرات، وقد تمكن بهذه الطريقة أن يتجاوز سحر الغانيان وأن يمر بسلام، وعلى هذه الصورة تنتهي الأسطورة إلى انتحار الحوريات لأنّهن أخفقن في غواية أوديسيوس الذي سمع غناءهن وعرف أسرارهنّ
شكلت هذه الأسطورة مصدر إلهام فكري لهوركهايمر وأدورنو وانطلقا من معانيها ودلالاتها الحضارية في استكشاف العمق الثقافي للحضارة الغربية، ووظفا هذا النص الأسطوري لاكتشاف العلاقة الجدلية بين التنوير والحضارة المادية. وفي مسار التحليل يجد هوركهايمر وأدورنو شرارة التماثل بين الأسطورة وحركة التنوير الأوروبية. فالتنوير كان محاولة تاريخية لفك السحر عن العالم والإنسان الغربي حاول في سياق حركة التنوير أن يتحرر من القوى السحرية وأن ينتصر على الطبيعية ويخضها لإرادته العليا ولكنه في صراعه مع الوحوش أصبح أكثر وحشية وفي صراعه مع الأسطورة تحول إلى شظايا أساطير. وعلى المنوال نفسه يقاتل أوديسيوس القوى الأسطورية التي تتمثل في ” حوريات البحر” وينقذ نفسه من العبودية الاستسلام للساحرات ولكنه في الوقت نفسه يدخل في عبودية من نمط جديد لا يقل خطرا عن عبودية الساحرات إذ يجد نفسه مشدودا إلى صاري السفينة وقد خسر حريته وحرية بحارته فأصبح عبدا بإرادته هو هذه المرة. وهذا يعني أن الإنسان في صراعه مع الطبيعية وفي محاولة فك السحر عن حضارته يقع من جديد في أسر العبودية والسحر والأسطورة بل يتحول فكره وثقافته إلى وهج أساطير جديدة هي أساطير الحضارة الاغترابية المغلقة التي تسجن الإنسان بإرادته في ظلمات السجون.
وتلك هي حكاية التنوير تتطابق مع أسطورة أوديسيوس فالتنوير الغربي في سعيه إلى تحرير الإنسان أوقعه من جديد في سحر الفردانية وتحت سطوة العقل الأداتي الذي يمثل الحبال التي شدت بروميثيوس إلى الصواري وقادت بحارته إلى الصمم. وهذا يعني أن صراع الإنسان الغربي مع الأساطير أغرقته في أساطير جديدة في وهم الحرية بين قضبان العقل الأداتي الذي حول الإنسان إلى عبودية جديدة وهي عبودية العقل الأداتي عبودية القهر التنويري عبودية التشيؤ الذي يعني أن الإنسان التنويري عندما عمل على ممارسة السيطرة على الطبيعية سيطر على ذاته وأفقد نفسه الحرية لقد أصبح شيئا يرتبط بالأوثان والصواري الأسطورية التي عرفناها في سفينة برومثيوس ظهرت الفردانية والذاتية أثناء صراع التنوير مع الأسطورة وبالعودة إلى أوديسيوس نجده يطور نمطاً من العقلانية الأداتية التي يصنعها بنفسه ليدرأ شر تلك القوى الأسطورية التي تحاصره وهي نوع من الحيل الماكرة التي حمت حياته لمرات عديدة أثناء رحلة العودة.
وعلى هذا المنوال ذاته سارت الحضارة الغربية التي أبدعت عقلها في السيطرة على الطبيعية والانفلات من سحرها، ولكن السحر انقلب في النهاية على الساحر وأصبح الإنسان عبدا لما صنع عقله وما اخترعت يداه من وسائل السيطرة والهيمنة فالحبال والأوتاد تشدنا إلى الزنزانات الحضارية، وكذلك الشمع يصم أذاننا إذ فقدنا قدرتنا على إدراك ما نحن فيه من قهر وعناء، وتوقفنا عن سماع نداء الطبيعة الجميل وسحر الساحرات مستسلمين لعبودية جديدة أشد قهرا وأكثر إيلاما. نجح أوديسيوس في قهر قوى الطبيعة الخارجية، ولكنه دفع حريته ثمناً لذلك عندما قيَّد نفسه إلى السارية وهكذا يكون الأمر دائما إذ عندما يروض الإنسان الحديث الطبيعة الخارجية ويسيطر عليها يروِّض نفسه ويخسر حريته الذاتية ويقيّد نفسه إلى صواري العبودية وأسر الحضارة المدنية وهنا تكمن حكاية التنوير في حركة نشاطها وسقوطها في دوائر الاستلاب والاغتراب
خاتمة:
وإذا كان هدف التنوير العقلي منذ القِدم هو تحرير البشر من الخوف، وجعلهم سادة على الأرض وملوكًا عليها أو مالكين لها ” فإن الأرض التي تم تنويرها لا تزال تغمرها ظلال الكارثة — والكارثة في مفهومهما هي سيادة الأسطورة (النازية اللاعقلانية!)، وهكذا كانت الأسطورة نفسها نوعًا من التنوير، ولكن التنوير كان يرتدُّ دائمًا إلى الأسطورة ويدمِّر نفسه بنفسه” وهذا يعني أن تاريخ التمدن والتنوير ظل حتى اليوم ظل مُتلبِسًا بالأسطورة أو مطويًّا فيها، وكأن التنوير لا يزال في حركة دائمة كحركة الفكرة المستمرة تُفضي به دائمًا إلى الوقوع في أَسر الأسطورة وفي ضوء هذه الرؤية الأسطورية لسقوط الإنسان في مستنقع العبودية يرى مفكرو المدرسة أن الإنسان في سعيه التنويري لم ينتصر على الطبيعية فحسب بل انتصر على الإنسان نفسه فحاصره وشيئه ووضعه في دائرة العفن والاغتراب وهو الأمر الذي أدى تدمير العلاقات الحيوية بين بين أفراد المجتمع بين الإنسان والإنسان.
لقد كان هدف هوركهايمر وأدورنو هو بيان الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي وتمزُّقِهِ منذ بداياته الأولى، وارتِدَادِه بصُورةٍ مستمِرَّةٍ إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن يَنتَزِعَ نفسه منها وتمَثَّلت لهما في البربرية النازية التي كانت هي اللعنة والكارثة؛ ولذلك حاوَلَا معرفة الأسباب «العقلية» التي جعلت البشرية الغربية تسقط في أمثال هذه البربرية «اللاعقلية» طوال تاريخها المُبْتَلَى بالرُّعبِ والقَهرِ والقتلِ والتَّعذيب بدلًا من أن تبدَأَ وضعًا إنسانيًّا حقيقيًّا تَسُودُه السَّعادة والتَّصالح بين البشر وبينهم وبين الطبيعة.
وباختصار فإن “التنوير الذي أخذ على عاتقه تحرير الإنسان من عبودية العصور الوسطى بتبنيه للقيم العقلانية وللمبادئ التقدمية فشل في مهمته التنويرية وسقط غي مستنقع العدمية التاريخية وذلك لأن العقلانية التحررية التي حملها تحولت إلى عقلانية أداتية متوحشة وانقلبت إلى وحش ضار غير قابل للترويض يدوس ويحطم كل من يعترض طريقه كائنا من كان: الإنسان والأشياء والثقافة والسياسة محولا إياها إلى مجرد أشياء وسلع قابلة للتصنيع والتدوير والانتهاك والاستهلاك.
د. علي أسعد وطفة