شهدت فلسطين المحتلة خلال الأيام الاحدى عشرا الماضية صورة كفاحية نوعية، تفرد بها الشاب البطل عدي كمال التميمي (22 عاما)، ابن مخيم شعفاط، حيث شاء أن يكون امتداد من طراز مختلف، ومفصل متميز في قافلة الشهداء الطويلة. اختار بوعي كامل درب الحرية الحمراء، مقبلا لا مدبر على حياة الخلود، حاملا روحه على كفه، ومضى صوب البقاء الأبدي في سجل العظام من أبناء الشعب العربي الفلسطيني. سار تملؤه الثقة والشجاعة والفروسية الوطنية والقومية إلى خياره باقتدار وشموخ، وأنفة الفدائي المفولذ إلى بوابة مستعمرة “معاليه أدوميم” في العاصمة الأبدية القدس مساء أمس الأربعاء الموافق 19 أكتوبر 2022 وأطلق رصاصاته من مسدسه على حراسها المدججين بالسلاح، وواصل تحديهم، رغم كل الطلقات الجبانة التي أثخنت جسده بالجراح وفي مناطق عدة، لكنه واصل المقاومة وحيدا، وبطلقات معدودة، ومن سلاح متواضع إلى أن سقط شهيدا مضرجا بدمائه الحمراء.
رفض عدي الموت مختبئا في أحد البيوت أو المساجد أو الكهوف، وأَصر على ملاحقة الأعداء الصهاينة في عقر مستعمراتهم، مفاجئا لهم، ومستهدفا إياهم بطلقاته المحدودة، ولكنها ذات رمزية عالية في اختيار المكان والزمان ليعلن بدمه النازف “هنا القدس العاصمة الفلسطينية” و “هنا فلسطين الذبيحة تنهض من سبات اللحظة العربية البائسة” و “هنا العروبة الباقية فينا، تستعيد عافيتها من أرض الرباط، من أرض الإسراء والمعراج، كنيسة القيامة، من أقرب منطقة ما بين الأرض والسموات السبع” و “من هنا تعود عقارب ساعة التاريخ المجيد تدور في فلك التغيير. ” كان يعلم منذ اللحظة الأولى التي توجه فيها إلى حاجز شعفاط العسكري الصهيوني مساء يوم السبت الموافق الثامن من ذات الشهر، أي قبل أحد عشر يوما، حينما وجه فوهة مسدسه إلى رؤوس الجنود الصهاينة برجولة الفدائي البطل، وتمكن من قتل المجندة “نوعا لازار” وإصابة جندي آخر بجروح خطيرة قبل أن يلوذ بالفرار، ويتمكن من الانسحاب بسلام، وبقي طيلة الأيام الماضية يجول في مخيمه وإحياء عاصمته الأبدية. رغم زج دولة الاستعمار الإسرائيلية بآلاف الجنود وعناصر أجهزة الأمن للقبض عليه. لكن حملتهم باءت بالفشل، وهزم عدي إسرائيل الاستعمارية كلها بإرادته البطولية. نعم أسقط عدي التميمي النظرية الأمنية الإسرائيلية في زهرة المدائن، التي احتضنته بين دروبها وحاراتها وأحيائها ومعابدها، وهو ما يؤكد أنالقدس العاصمة، هي فلسطينية الانتماء والتاريخ والهوية والثقافة، وهي حاضنة أبنائها وأبطالها، وحامية موروثها الحضاري بالتلاحم بين حجارتها وأزقتها وشوارعها وهضابها وتلالها وجبالها وناسها، حتى تمازجت أنفاسها بعطر أجسادهم، وتماهت مع أرواحهم، ودقت أجراس كنائسها مع نبضات قلوبهم، ورفع الأذان من مساجدها بعمق إيمانهم، ورسوخ انتمائهم لوطنيتهم الفلسطينية وقوميتهم العربية. وتجلت عظمة القدس الأبيةباستحضار أبنائها تجربة الثورة الكبرى 1936/1939 عندما وحد الفلسطينيون لبس الحطة (الكوفية) والعقال بدل الطربوش، حتى يحموا الفدائيين من الجنود البريطانيين المستعمرين، فقام الشباب المقدسي بحلق رؤوسهم ليحموا المغوار عدي من الملاحقة. وهذا شكل من التكافل والتكامل الكفاحي. كما أن عدي وحد الشعب، كل الشعب العربي الفلسطيني من الماء إلى الماء إلى الشتات والمغتربات، ووحد كل القوى دون استثناء، وأعطى الشباب الفلسطيني نموذجا كيفيا من الكفاح والعطاء. وهذه كانت عنوان ورسالة وصيته التي خطها بقلمه، التي جاء فيها “عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر. ” وتابع مؤكدا فلسفته في فهم التضحية “وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية. ولكن نفذتها وأنا واضع هدف أمامي، أن تحرك العملية مئات الشباب ليحملوا البندقية بعدي. ” ووقعها بالمطارد عدي بتاريخ 11/10 الماضي.
هذه الروح العملاقة لبطل الحرية والاستقلال والعودة عدي التميمي تعكس إرادة وإيمان الشعب العميق بالانتصار على المستعمر الصهيوني مهما طال زمن الكفاح، ولا خيار لبناء السلام دون تحقيق الأهداف الوطنية كاملة غير منقوصة، وتؤكد أن القدس بكل ذرة تراب فيها أسوة بكل مدن وقرى وخرب وسهول وجبال وهضاب وتلال فلسطين، فلسطينية منذ الأزل حتى الأبد، ولن تكون غير ذلك، وكل أسلحة الموت الإسرائيلية النووية والكلاسيكية، وكل المهاجرين من المرتزقة الصهاينة، ومعهم الولايات المتحدة والغرب بكل مكوناته الاستعمارية القديمة والحديثة لن تثني الشعب العربي الفلسطيني عن الوصول إلى ثوابته وأهدافه الوطنية والقومية. لروح الفدائي البطل عدي كمال التميمي السلام والرحمة، الذي سيبقى اسمه وروحه ملهمة للأجيال القادمة حتى التحرير والاستقلال والعودة، وستبقى حاضرا في أرفع وأهم صفحات المجد الوطني والقومي أسوة بمن سبقوك على درب الشهادة والعطاء.
بقلم: عمر حلمي الغول