أقلامالأولى

نيران استعمارية على ستورا

بقلم احسن خلاص

عكس ما كان منتظرا، لم تثر مبادرة العمل على ذاكرة الاستعمار وحرب التحرير بين الجزاىر وفرنسا أي ردود أفعال تظهر أهمية كبرى للحدث في الجانب الجزائري عكس الطرف الفرنسي الذي ظهر أنه أكثر ثرثرة في الموضوع من الطرف الجزائري. فمنذ أن عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمؤرخ بنجامين ستورا مهمة العمل حول “ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر” مع ممثل الطرف الجزائري في شخص مدير الأرشيف الوطني مستشار رئيس الجمهورية في مسائل الأرشيف عبد المجيد شيخي انطلقت ألسنة النقاد من أصحاب النظرة المحافظة والمتطرفة في فرنسا تجاه المهمة وصاحبها من الجانب الفرنسي.

أبرز هذه الألسنة المستنكرة أحد المساهمين في المسائل التاريخية في لوفيغارو ماغازين وعضو اللجنة العلمية لملحق لوفيغارو ايستوار الكاتب جون سيفيليا الذي أجرت معه الصحيفة حوارا فتح النار فيه على سياسة ماكرون تجاه الذاكرة الاستعمارية عامة وعلى اختيار بن جامين ستورا لتمثيل فرنسا في هذه العملية المعقدة بشكل خاص. حوار لم يخف فيه سيفيليا نظرته الاستعمارية الحاقدة وهو المولود بباريس عام 1952، عامين قبل اندلاع حرب التحرير، حيث لم يتجاوز عمره عشر سنوات عندما نالت الجزائر استقلالها.

ويرى سيفيليا، صاحب كتاب “الحقائق المخفية لحرب الجزائر” أن تعيين ستورا ليس غريبا من الرئيس ماكرون الذي سبق أن وصف الاستعمار بالجريمة ضد الإنسانية عندما كان مرشحا وتبعها وهو رئيس بمسعى يكفر بالوجود الفرنسي في الجزائر تماما على نهج ستورا الذي يساير بدوره قراءة “الاستقلاليين” الذين يعتبرونه ظلما من أوله إلى آخره. واعتبر أن ستورا لم يشتغل على التاريخ بقدر ما اشتغل على الذاكرة الجزائرية الجريحة التي أظهر تجاهها تعاطفا و”لا يعرف بدقة البعد العسكري للذاكرة الفرنسية حول حرب الجزائر”. فهو في نظر سيفيليا لا يمتلك معرفة متساوية للمعسكرين ولا للمناوشات القائمة داخل كل معسكر ولا يعرف شيئا عن الذاكرة الأوروبية ولا عن ذاكرة الحركى بينما ظهر أكثر تفهما تجاه جبهة التحرير الوطني مبررا خيار الكفاح المسلح الذي يعتبره سيفيليا إرهابا، ومن ذلك فإن ستورا برر أفعالا ثبتت خطورتها منها إيداع القنابل لقتل المدنيين بمدينة الجزائر وتفجيرات سكت عنها ستورا في نظر سيفيليا كما سكت عن المخطوفين وضحايا المجازر في صفوف الحركى…

عاد سيفيليا إلى مهمة ستورا ليعتبرها مهمة خاصة بجلد الذات الفرنسية باعتبارها مذنبة مسبقا وأن الأمر لا يعدو مجرد إماطة اللثام عن طابوهات ظل متسترا عليها على غرار عمليات التعذيب التي مارسها الجيش الفرنسي. وبهذا فإن مهمة ستورا في نظر الكاتب الفرنسي لا تتجاوز مسايرة الخطاب المعادي للاستعمار الذي تتبناه الدولة الجزائرية التي رفعت عدد الضحايا الجزائريين الى مليون ونصف المليون بينما غفلت عن “المنجزات الطبية والمعالم التاريخية لمدينة الجزائر”.

ولم يتوان بن جامين ستورا عن الرد على هذه الهجمات في الصحيفة ذاتها مفندا انحيازه لطروحات الاستقلاليين الجزائريين مذكرا أن أعماله انصبت كذلك في جزء منها على ذاكرة الفرنسيين والأوروبيين في الجزائر منها اختفاء أوروبيين عام 1962 ومشاركة في شريط وثائقي حول الأقدام السوداء وكتابات مختلفة عن اليهود في الجزائر كما أشار إلى أعماله وأبحاثه حول الجنود الفرنسيين وإشرافه على رسائل في الجامعات الفرنسية في موضوع الجيش الفرنسي في الجزائرانطلاقا من الأرشيف وشهادات الفاعلين. وفي المقابل أعاب ستورا على منتقده إغفاله حقيقة النظام الاستعماري الذي وضعته فرنسا في الجزائر وتجاهله آلاف المختفين خلال الحرب والمناطق الممنوعة والتهجير القسري لمئات الآلاف من الفلاحين واستخدام النابالم وزرع الألغام على الحدود.

يبدو أن جولة الحوار الطويلة حول الذاكرة الجزائرية الفرنسية خلال الحقبة الاستعمارية قد بدأت في فرنسا قبل أن تبدأ بين البلدين. إذ لم يكن مستبعدا أن يثير تعيين ستورا انتقادات داخل الأوساط المتطرفة في فرنسا فهذه الأوساط لا يرضيها أصلا النبش في الذاكرة لذا نجدها تسابق الأمور لتعلن عن موقفها الاستعماري جهارا نهارا وهو موقف متجدد كما رأينا مع هذا الكاتب الذي لا يتعدى عمره 68 سنة.

وإذا كان تعيين ستورا قد أثار بعضا من التحفظات في الجزائر لاسيما عند بعض المؤرخين فإن تحفظات بقايا أنصار الجزائر الفرنسية أشد وهي تحفظات هدفها الضغط مسبقا على المكلف بمهمة من الجانب الفرنسي لوضعه في موقف الدفاع وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير عندما أخرجته عن صمته للرد علنا عن ما اعتبر اتهامات مسبقة بالفشل في مهمته المتمثلة حسب الاليزي في ” معاينة صائبة ودقيقة للدرب الذي سارت فيه فرنسا حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر”. ولعل ما أثار حفيظة الاستعماريين الجدد في فرنسا إشادة الرئيس الجزائري بستورا وصدقه ومعرفته الجزائر وتاريخها وهو ما سيساعد في نظر تبون على البحث عن الحقيقة والطمأنينة والهدوء لحل المشكلات التي تنغص علاقاتنا السياسية ومناخ الأعمال والتفاهم التام. ومن الجانب الفرنسي فإنها فرصة للشباب، في نظر ماكرون، للخروج من “نزاع الذاكرة متمنيا أن تؤدي هذه الإرادة الجديدة إلى المصالحة بين الشعبين الجزائري والفرنسي. فقد أعاق موضوع الاستعمار وحرب الجزائر طويلا بناء مصير مشترك للبلدين في البحر المتوسط.” في نظر ما كرون.

وإن ظهر أن إطلاق العمل الجزائري الفرنسي حول الذاكرة الاستعمارية يهدف لفصل الذاكرة عن التجاذبات السياسية بوضعها في يد أصحابها وهم المؤرخون وانتزاعها من الاطراف المتطرفة هنا وهناك فإنه سيشكل دون شك مادة خصبة لنقاش سياسي في فرنسا خاصة بالنظر إلى أنه وبعد ما يقرب من ستين سنة من إنهاء الاحتلال الفرنسي لا تزال أصوات من اليمين المتطرف تحن إلى الجزائر الفرنسية. وإن كان ماكرون يريد طي الملف قبل نهاية هذه السنة فإنه سيلتصق به وهو يتهيأ ويسعى لنيل الولاية الثانية في 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى