
بقلم: صالح عوض
على أرضهم تدور رحى المعارك الخطيرة منذ عدة قرون، وعلى أرضهم نزلت رسالات التوحيد ومنها كان العروج إلى السماء؟ بالقيم عجنت جبلتهم.. فحملوا للبشرية مشعل الهداية والنهضة والكرامة الإنسانية.. لا يرضى العرب بالسفح، فإما على القمة السامقة أو العيش في الحفر.. إنهم اليوم يتعرضون لأعنف حملة شيطنة وتيئيس من مستقبلهم لتمزيقهم ونهبهم كأنهم خلقوا للتخلف والتبعية وانساق بعضنا في الزفة.. لم تكن جامعة دولهم قادرة على حمل مشاعرهم وطموحاتهم، ولم تتحمل يوما مسئولية رسالتهم فهي لم تخلق لذلك، لذا كانت تترنح بين مهمات مشبوهة ضارة حينا، و مائعة مترددة أحيانا كثيرة.. فهل يهدمون آخر بيوتهم أم يغيرون شروطها؟.. أي أياد مجرمة تلك التي تضع العصى في دولاب وحدتهم؟ و متى يصل الاستفزاز بضمائرهم مداه، فينتفضون يكسروا القيود ويركلوا الأصنام كما فعلوا ذات يوم، ويفرضوا أنفسهم في المشهد قوة فاعلة في مستوى ما يحملهم التاريخ والجغرافيا والرسالة وما تمنحهم إمكاناتهم من مهمات؟ عندما حاول كسرى ذات يوم أن يلهوا بأعراضهم توحد شتاتهم وحملوا عليه حملتهم فقلعوا عينه و جذعوا أنفه.. وهاهو الأقصى يستنخيهم، فلعلها اللحظة التاريخية لانتفاضة العرب، يقودون أمتهم نحو مواضع العزة والكرامة والسيادة.
الفكرة والمنشأ:
في 29 مايو/أيار 1941أصدر وزير الخارجية البريطاني “أنتوني إيدن” بيانا جاء فيه: “كثير من مفكري العرب يرجون للشعوب العربية درجة من الوحدة أكبر مما هي عليه الآن، وحكومة صاحب الجلالة من ناحيتها ستؤيد كل التأييد أية خطة تلقى من العرب موافقة عامة”.. كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية وقبل نكبة فلسطين بسبع سنوات وبالنظر لطبيعة النظام العربي السياسية والأيديولوجية يومذاك يصبح واضحا أي دور مطلوب من جامعة الدول العربية.. جاءت الإجابة من مصر حيث دعا رئيس وزرائها مصطفى النحاس الى مؤتمر ضم مصر والسعودية ولبنان وسورية وشرق الأردن واليمن والفلسطينيين.. وسارع الانجليز للتأكيد في فبراير/شباط 1943 على مساعدة بريطانيا لقيام الجامعة_العربية و في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1944 تم التوقيع على وثيقة الإسكندرية من قبل رؤساء حكومات مصر ولبنان وشرق الأردن وسوريا والعراق ثم اليمن والسعودية وكان الانطلاق عمليا في 22 مارس/آذار 1945.. وفي تلك الأثناء كان المغرب العربي يرزح تحت الاستعمار الفرنسي، وليبيا تحت أطراف استعمارية متنوعة.
الجامعة وفلسطين:
واجهت جامعة الدول العربية التحدي الأول عندما أعلنت بريطانيا عن عزمها الانسحاب من فلسطين بعد ثورات فلسطينية متتالية فقامت في 2/4/1947 بإحالة قضية فلسطين على الأمم المتحدة للبت فيها في ضوء التطورات الجديدة على أن يكون 15 مايو/أيار هو يوم انسحاب الجيوش البريطانية فانتهت مباحثات الأوربيين والأمريكان والسوفيت إلى قرار تقسيم فلسطين.. تحركت القيادة الفلسطينية ممثلة بالحاج أمين الحسيني لانتزاع قرار عربي بالاعتراف باللجنة العربية العليا ممثلا للشعب الفلسطيني وبالولاية على أرض فلسطين والاعتراف بدولة فلسطين لحظة الانسحاب البريطاني، والطلب من الدول مساعدتها في تطهير البلاد من مخلفات الاستعمار البريطاني إلا أن جامعة الدول العربية رفضت ذلك بعد احتجاج مصر على الطلب الفلسطيني.. انسحبت القوات البريطانية وسلمت مفاتيح البلاد للعصابات الصهيونية في 15 مايو/أيار 1948 حسب وعد بلفور، فواصل الشعب الفلسطيني كفاحه من خلال فصائل “الجهاد المقدس” في مدنه وقراه في ظل عدم تكافؤ مادي عسكري وتقني حيث زود الاتحاد السوفيتي العصابات الصهيونية في نهاية الحرب العالمية الثانية بخيرة الضباط اليهود الروس..
أعلنت الدول العربية -المنضوية في الجامعة- عن رفضها لقيام الكيان الصهيوني فتحركت جيوش دول الجامعة بعدد هزيل لا يزيد عن 20 ألف مقاتل بأسلحة صدئة وفي غياب رؤية وخطة مكونة من قوات مصرية 10.000 جنديا، تليها المملكة الأردنية الهاشمية بإجمالي 4.500 جنديا وبطاريتي مدفعية بقيادة خمسين ضابط بريطاني وعلى رأسهم الجنرال قلوب باشا البريطاني، وشاركت المملكة العراقية بقوة تضم 2.500 فردا، وشاركت سوريا بقوة تضم 1.876 فردا، وشارك لبنان بقوة تضم 900 جنديا، وشاركت المملكة العربية السعودية بقوة قاربت ثلاثة آلاف ومائتي رجل.. فيما بلغت أعداد منظمة “الهاجاناه” الصهيونية العسكرية في الأسبوع الأول من يونيو 1948 نحو 107.300 مقاتلا مدربين ومجهزين بأحدث الأسلحة وقتها وتقودهم قيادات عسكرية لها الخبرة وقد شاركت في الحرب العالمية الثانية.
انتهت الحرب بهدنة على حدود كرسها انتصار المليشيات الصهيونية لإعلان الدولة على 80 بالمائة من أرض فلسطين، وانتهت بترحيل 90 بالمائة من الفلسطينيين منها.. ومنذ ذلك التاريخ لم تتخذ مؤتمرات جامعة الدول العربية أي موقف عملي حقيقي لتحرير فلسطين.. فلقد استقر في وجدان النظام العربي مبكرا أن فلسطين ضاعت وتحرك النظام العربي على التوطين و التقييد على الفلسطينيين وفي خاتمة المطاف صرح بضياعها أمين عام جامعة الدول العربية أبوالغيط.
وعلى المسار السياسي ظلت جامعة الدول العربية متساوقة مع القرارات الدولية ومقتربة تماما من سياسة الدولة المصرية المعترفة بقرارات الأمم المتحدة المقرة بوجود إسرائيل ملتزمة بمعاهدة اعتراف وسلام وصلح مع الكيان الصهيوني.. وظلت الجامعة في تراجعات متواصلة لم تحقق الحد الأدنى في دعم الشعب الفلسطيني بل أنها أصبحت ناديا لتمرير صفقات تنازل عن حقوقه.
الجامعة والعراق:
كانت الطامة الكبرى عندما تخلت عن دورها في إصلاح ذات البين في الأزمة العراقية الكويتية وتصدت لأي محاولة لحل عربي سلمي، فقدمت القمة العربية المنعقد بالقاهرة نهاية سنة 1990 غطاء للعدوان الثلاثيني على العراق وانضوت الجيوش العربية تحت قيادة أمريكية في جبهات القتال ضد الجيش العراقي وشاركت في حصار العراق لمدة زادت عن 12 سنة استجابة للإرادة الأمريكية تعرض فيها العراق لتدمير أبنيته التحتية وموت أكثر من نصف مليون طفل جوعا ومرضا، وقتل أكثر من مليوني عراقي ثم امتنعت الجامعة العربية عن الانعقاد والوقوف ضد العدوان الأمريكي على العراق الذي انتهى باحتلاله وإعدام رئيسه وحل جيشه ونهب ثرواته وتبعثره على دول الإقليم تنهش لحمه وتمزق كيانه.. وتحقق للاستعماريين الهدف الاستراتيجي بتدمير بلد عربي مركزي، الأمر الذي عرض الأمن القومي العربي إلى هزات عنيفة يكاد لا يسلم منها أي بلد عربي وكان أول من دفع الفاتورة هو سورية التي أقدم جيشها على مشاركة الحلفاء في الحرب على العراق.
الجامعة وسورية:
تظهر الأزمة السورية هشاشة بنيان الجامعة العربية وخضوعها لتوجهات بعض أعضائها وعدم استفادتها من الزمن في التحرر من وظيفتها التي أرادها لها “أنتوني بايدن”.. فبعيد انبعاث الأزمة السورية تجلت الفوضى في الموقف الرسمي العربي حيث شارك بعض النظام العربي في تزويد المجموعات المسلحة بمئات مليارات الدولارات لإشعال الحرب في سوية كما طردت الجامعة العربية المندوب السوري في 12 نوفمبر 2011 وحاولت استبداله بمندوبين لهم علاقات وثيقة بالغربيين الأمر الذي عبر عن اختطاف الجامعة من قبل دول البترودولار كما وضعها أمام مصيرها الحساس.. رغم ان مندوبي سورية في الأمم المتحدة ومنظماتها المتعددة ظلوا في مواقعهم.
من هنا ينظر بعين الاهتمام لمؤتمر القمة العربية القادم في الجزائر، فهل يصحح الحكام العرب خطأهم فيسمحوا لجامعة الدول العربية بدعوة سورية للمؤتمر؟.. إن المسئولية كبيرة والفرصة مواتية للإقلاع عن الخطيئة والتحرك خطوة إلى الأمام لتعزيز المنظمة العربية بحدها الأدنى وهنا يصبح لزاما على المؤتمر القادم أن يدعو سورية لحضور القمة ومحاولة رأب الصدع وإجراء مصالحات عربية من شأنها إرسال رسائل واضحة للجميع بضرورة إعادة الحسابات في التعامل مع قضايا العرب.
الجامعة واليمن:
تواجه اليمن منذ أكثر من خمس سنوات كارثة وجودية تهدد المجتمع بعد ان عصفت بالدولة ولقد وقفت جامعة الدول العربية عاجزة عن مناقشة ملف اليمن ووضع حل عربي يخرج البلاد من أزمته الطاحنة و انفرد البعض بحجة مواجهة الخطر الإيراني لتكوين حلف خارج إطار الجامعة العربية ليعمق المأساة والمأزق الأمر الذي أنتج تشتت الدولة اليمنية وبروز مليشيات طائفية وجهوية زادت من تعقيد المشهد الذي أصبح جاذبا لدول إقليمية ودولية.
صحيح أن ما ارتكبه الحوثيون بانقلابهم خطأ ادخل اليمن في دوامة الصراع الإقليمي والدولي ولكن تدمير اليمن خطيئة.. من المؤكد لن تجد أزمة اليمن حلا حقيقيا لها إلا بتدخل عربي جاد وحازم يشترك فيه العرب بعيدا عن تمحوراتهم وأجنداتهم القطرية المحدودة.. تدخل عربي يحظى بثقة اليمنيين وتفهمهم.. وكما أصبح اليمن يعاني أزمة في أمنه واستقراره، فانه أصبح مصدرا للتمزق في المنطقة كلها، و سيخسر العرب موقعا استراتيجيا حساسا بالقرب من الممر المائي الخطير باب المندب الذي يهدد أمنهم القومي.
الجامعة وليبيا:
لقد كان امرأ معيبا أن تتابع جامعة الدول العربية والنظام العربي تدخل الناتو في ليبيا دون موقف عربي واضح وحازم بل إن بعض الدول العربية شارك الناتو في قصف ليبيا.. لقد دمر الغربيون ليبيا ومزقوها على قبائل ومليشيات لينهبوا ثرواتها ويحولوها إلى بلد فاشل مصدر للإرهاب في الإقليم.
ثم وبعد سنوات طويلة يقف الليبيون في دائرة المجهول وقد تناوشتهم الدول العربية والإسلامية تشتيتا وتمزيقا وأصبحت الساحة الليبية مجال صراع بين أطماع دول عربية وإسلامية وأجنداتها ورغباتها.
إن التصدي للازمة الليبية ليس فقط بدافع أخلاقي بل أيضا بدافع استراتيجي له علاقة بامن الإقليم ومصالحه الحيوية لذا فان المقاربة الجزائرية في حل الأزمة تبدو هي الأقرب لنيل ثقة الليبيين بعد أن حقق الجزائريون ثباتا في موقفهم بأن يظلوا على مسافة واحدة من الجميع ويعززوا الشرعية ويدعوا إلى الحوار الليبي-الليبي.. إلا أن الأزمة الليبية -والقابلة للتفاقم- تفرض على النظام العربي ومؤسسته الوحيدة اهتماما بمستوى الأزمة.
تحديات جيواستراتيجية:
يقع العرب في محيط إسلامي وإفريقي ويمثلون في ذلك المغناطيس المركزي فالجغرافيا والتاريخ والإمكانات الهائلة تمنح العرب موقع المركز في العالم الإسلامي والقارة الإفريقية و علاقاتهم بدول الجوار لها الأثر المباشر على أمنهم القومي وعلى عجلة النمو و التحرر لديهم.. وهنا تطرح عناوين العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والإستراتيجية مع إيران وتركيا وإفريقيا.. فالمحيط الحيوي للعرب ليس فقط محور طنجة جاكرتا بل هو أوسع كثيرا انه أيضا إفريقيا وقد يمتد إلى قارات أخرى كأمريكا اللاتينية.. وبمقدار تفعيلهم للعلاقات الصحية بمحيطهم تبدو قوة العرب وتأثيرها في الخريطة السياسية العالمية.
إن غياب إستراتيجية عربية جامعة للنظام العربي جعل العرب موزعين على الجوار او محل طمع من دول الجوار الأمر الذي أدى إلى ما نعيشه الآن في سورية والعراق واليمن وما ينتظرنا من إثيوبيا تجاه مصر.. فالطبيعة لا تعرف الفراغ..
إن غياب مشاريع عمل مشتركة بين الدول العربية على الأصعدة كلها لاسيما الاقتصادية والعلمية أفقد الجامعة الفرصة للتطور.. صحيح إن طبيعة النظام العربي التسلطية وغير الديمقراطية تقف حجر عثرة أمام تطور الجامعة لكن من المهم الالتفات إلى أن المصلحة الحقيقية لكل دولة تكمن في مزيد التعاون العربي البيني وتطوره لان ذلك هو بديل ابتزاز الإدارة الأمريكية والإدارات الاستعمارية وبديلا عن الوقوع تحت ضغط الإرهاب والعنف.. وعلى هذا الاعتبار فانه يصبح واضحا أن تدعيم التكامل العربي هو الفاحص لتوجهات النظام نحو تعزيز الاستقرار والتنمية في بلده والحكم عليه بالجدية او عدمها؟ كما ان تدعيم التكامل العربي وتقويته هو السبيل الحقيقي نحو القدس.