
بقلم: احسن خلاص
تحدثنا في مقالنا السابق عن الوظيفة السياسية والظروف التاريخية التي ساعدت على إدراجها ضمن وظائف الدولة دون أن تكون ضمن سجل الوظائف لدى المديرية العامة للوظيفة العمومية وبينا كيف أن الوظيفة السياسية داخل الدولة ليست متاحة لكل الإطارات فهي تقتضي شروطا منها الولاء التام للجهة الموظفة والتخلص من عناصر هويته الشخصية ومرجعياته المجتمعية والعائلية ليضع قدراته الفكرية والعملية وقوة عمله في خدمة صاحب العمل وهو النظام الذي استخدمه.
وقد طالبنا القراء بالمزيد من الخوض في هذه الإشكالية لذا اجتهدنا لتبيان جوانب أخرى تدعم ما ذهبنا إليه في المقال السابق الذي بينا فيه كيف كان احمد أويحيى نموذجا مثاليا لهذا الصنف من الموظفين الذين تقولبوا في قالب الدولة بحيث لم يكن لديهم مجال آخر يكتسبون فيه حريتهم من جديد وهو الذي ذهب إلى حد قيادة حزب يعد من أجهزة السلطة الكبرى وفسح له طريق الفوز في الانتخابات بإشغال ماكنة التزوير ومكن لقدراته الخطابية من الانطلاق نحو تبرير قيادة مرحلة اتسمت بغلق تام للحياة السياسية وكبح لعمل المؤسسات في سبيل تكريس حكم فردي مركزي مطلق.
لقد ظل أويحيى ذلك الشر الذي لابد منه لمواصلة السير العادي لدواليب الدولة وتبرير ما لا يبرر من قرارات غير شعبية حتى في عز البحبوحة المالية، مع أن أصحاب القرار يدركون أنه يمثل بامتياز الهوة القائمة بين النظام والشعب فقد تراكمت في رصيده سلسلة من القرارات غير الشعبية وهو يعلم أن الشعب لن تكون له الكلمة يوما في تقرير مستقبله السياسي لأن هذا الأخير مرهون بمستقبل النظام بأكمله فلا مبرر لوجوده إذا انهار النظام يوما.
يحدث أن يزاح من الحكومة لفترة مثل ما حدث مع حكومات بن فليس وبلخادم وسلال دون أن تبدو منه ردود أفعال مستنكرة وإذا حدث وأن قدم ملاحظات حول عمل الحكومة فإن ذلك لا يتعدى مجال النصح والتصحيح وقال ذات يوم: “لا تنتظروا مني أن أنتقل إلى المعارضة يوما فأنا ابن الدولة التي أعطت لي كل شيء ومن باب رد الجميل علي أن أبقى مخلصا متفانيا في خدمتها” فقد حدث له أن تزامنت مغادرته الحكومة مع مغادرة قيادة حزبه التجمع الوطني الديمقراطي تحت ضغط مجموعة من الإطارات مدفوعة من جهات من السلطة يعرفها جيدا، منهم الأمين العام الحالي الطيب زيتوني. لم يبد أويحيى أي مقاومة ولم يتزعزع بل غادر مكانه في هدوء وترك الحزب بين يدي بن صالح إلى غاية اليوم الذي أرسله بوتفليقة ممثلا للجزائر ضمن مراقبي الانتخابات الرئاسية في موريتانيا فكانت تلك بوابة عودته من جديد لقيادة الأرندي ومنه إلى أروقة السلطة وزيرا للدولة مستشارا خاصا للرئيس بوتفليقة وخاض الحملة الانتخابية لعهدته الرابعة قبل أن يتولى إدارة ديوان الرئيس ويقود مشاورات التعديلات الدستورية ل2016 ثم العودة إلى الوزارة الأولى في أوت 2017. لم يكن ولاء أويحيى خالصا للدولة فهو يعلم أن الدولة ليس لها وجود مستقل عن السلطة القائمة لذا فقد رافق سلطة زروال لكن سرعان ما انقلب ليرافق سلطة بوتفليقة.
لقد كان ولا يزال إلى غاية هذه الأيام التي يحاكم فيها على فترات قيادته الحكومات المتعاقبة منضبطا ومقدرا للرئيس بوتفليقة الذي عادة ما يتبع ذكر اسمه بعبارة “الله يذكرو على خير” والانضباط ذاته جعله يردد في كل مرة أن ما فعله إنما كان تطبيقا لتوجيهات وتعليمات الرئيس بوتفليقة الذي ظل الموجه الأول والأخير لسياسة منح الصفقات العمومية. وعكس الموظف السياسي الآخر عبد المالك سلال الذي يعرف بطابعه الهزلي فإن أويحيى كان دائما يظهر شخصية صارمة وجدية وحازمة في غالب الأحيان حتى وإن كان يجنح أحيانا قليلة إلى استدعاء شيء من الثقافة الشعبية وتبيان ميله إلى الفن الشعبي العنقاوي والقبائلي بالرجوع إلى بعض أشعار أيت منقلات وسليمان عازم، ولم يكن الخروج عن النص إلا استثناء يؤكد القاعدة التي جعلت منه منذ البداية نموذجا مثاليا للموظف السياسي.
ويظهر التعديل الحكومي الذي أجراه الرئيس تبون مؤخرا مدى النزوع إلى إبعاد العمل الحكومي عن السياسة، إذ في الوقت الذي كان حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي بحكم امتلاكهما الأغلبية البرلمانية يرغبان في أن يكون لهما نصيب ضمن التعديلات الجديدة لاسيما وأنهما جددا الولاء للرئيس إلا أن تبون لا يزال حريصا على إبعاد الأحزاب السياسية عن التسيير وإبعاد المسيرين عن الأحزاب وإبقاء المناصب الوزارية في موقع الوظائف العليا للدولة. ولا يبدو أن الحكومة المرشحة للبقاء إلى غاية إفراز انتخابات تشريعية قبل نهاية السنة لأغلبية جديدة ستعرف دخول الأحزاب السياسية لكن مخرجات الانتخابات البرلمانية ستضطر الرئيس للتعامل معها وفق ما تقتضيه الترتيبات الدستورية الجديدة، وقد يدفع وزراء الحكومة إلى الترشح للاستحقاقات القادمة لاكتساب مكانة في البرلمان تؤهلهم للمزاوجة بين الانتماء السياسي والعمل الحكومي.
ويبقى التساؤل مطروحا: هل ولى عهد الموظفين السياسيين بعدما أخذوا أكبر نصيب من الاتهامات والأحكام بالفساد المتعلقة بالفترات الماضية أم أنه سيعود عندما تظهر الأزمات السياسية ضرورة الحفاظ على النظام على حساب التجاذبات السياسية مثل ما حدث مع أزمة التسعينات التي ساعدت على بروزهم. وثمة من يرى أن الوضع الذي توجد فيه البلاد اليوم في خضم حراك شعبي ذي طابع سياسي يتطلب تنصيب حكومة سياسية من منطلق أن الأزمة سياسية قبل أن تكون تقنية إلا أن التفتت الذي توجد فيه الخارطة السياسية والشرعية المهزوزة للبرلمان والمجالس المحلية تجعل هذا الخيار مستبعدا ولو إلى حين حدوث الفرز السياسي مع بداية العام المقبل.
تعليق واحد