كنّا رأينا في مقالات سابقة كيف تمّ القبض على العقل الإسلامي من قبل محمد أركون عن طريق رسالة الشافعي، والقبض على العقل العربي من قبل محمد عابد الجابري عن طريق لغة البدوي العربي، والقبض على العقل المغاربي من قبل علي الإدريسي عن طريق بنيته الثقافية الممتدة من العهد الفينيقي إلى قيام الدول المغاربية الحديثة. نحاول من خلال هذا المقال التطرق إلى استعمالات العقل الأمازيغي وإمكانية القبض عليه، والعلاقة الموجودة بين هذا العقل والعقول الثلاثة المذكورة آنفا.
استعمالات مصطلح “العقل الأمازيغي” والعقول المنافسة
من خلال جولة سريعة في “محرك غوغل”، نلتقي بالعديد من المقالات التي استعملت مصطلح العقل الأمازيغي ولو بطرق متباينة؛ فهناك من استعمله بالمفهوم الفكري على غرار المقال المعنون “العقل الأمازيغي أفقا للتفكير”، بقلم عبد الله بوشطارت، وهناك من استعمله بالمفهوم الثقافي على غرار المقال المعنون “اغتراب العقل الأمازيغي”، من إعداد فريد العتيقي، وهناك من استعمله بالمفهوم السياسي على غرار المقال المعنون “العقل السياسي الأمازيغي المعاصر”، بقلم أيضا عبد الله بوشطارت، وهناك من استعمله بالمفهوم اللغوي على غرار المقال المعنون: “جدلية اللغة والمواطنة عند العقل الأمازيغي”، بقلم محمد أسويق. كما التقينا بأطروحة أكاديمية حسب صاحبه عبد الحميد العوني بعنوان مثير للجدل وهو “موت العقل الأمازيغي”.
لقد أصبح استعمال مصطلح العقل بمفهومه القومي والقاري مباحا وجائزا معرفيا وأكاديميا منذ أن انتشر مفهوم العقل العربي بفضل محمد عابد الجابري. فإلى جانب العقل الأمازيغي، يستعمل اليوم الكثير من الباحثين في مقالاتهم العقل الإفريقي على غرار الكاتب السوداني محمد صالح في مقاله المعنون “نقد العقل الإفريقي”، أو الكاتب الكاميروني أمبيبي أشيل في كتابه نقد العقل الزنجي” (critique de la raison nègre)، كما يستعمل البعض الآخر من الباحثين العقل الأوروبي ومثاله المقال المعنون “تفكيك العقل الأوروبي” من إعداد محمد عادل زكي، أو الكتاب المعنون “جولة في العقل الأوروبي” للكاتب المصري سليم عبد المنعم، والكتاب “نقد العقل الأوروبي” (critique de la raison européenne) للكاتب الفرنسي (Bernard Peloille). على نفس الوتيرة، تمّ استعمال أيضا العقل الأمريكي مثل الكتاب المعنون: “العقل الأمريكي يفكر، من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات” للمؤلف شوقي جلال؛ والعقل الآسيوي كمقال وليد عبد الحي بعنوان: “العقل السياسي الآسيوي والاستدارة العربية شرقا”.
2- عقل أمازيغي أم عقل بربري
يحبذ الكثير من مدافعي القضية الأمازيغية مصطلح الأمازيغ على مصطلح البربر الذي يحمل في طياته بعدا سلبيا باعتبار أنّ الرومان هم من سموا أهل شمال إفريقيا بالبربر، وهو اسم لاتيني يعني المتوحشين أو الهمجيين البدائيين، وقد أطلق هذا الوصف على كل الشعوب التي استعمرتها الإمبراطورية الرومانية في حوض الأبيض المتوسط بما فيهم الأمازيغ. وقد سارت الدول المغاربية الحديثة على تفضيل مصطلح الأمازيغ على البربر في نصوصها التأسيسية والتنظيمية، حيث نص كل من الدستور الجزائري والمغربي على رسمية اللغة الأمازيغية وليس البربرية، كما استعمل الدستور الليبي لسنة 2017 مصطلحا الأمازيغ والطوارق للتعبير عن ثقافة السكان الأصليين؛ كما اتخذت المنظمات الحكومية الرسمية هذه التسمية على غرار المحافظة السامية للأمازيغية التي أنشئت في 1995 بالجزائر، والأكاديمية الجزائرية للغة الأمازيغية التي أسسها الدستور الجزائري في تعديل 2016، وكذا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالمغرب الذي تم تأسيسه في سنة 2001.
لكن هذا لا يعني أنّ مصطلح البربر مرفوض كليا من أقطاب الحركة الأمازيغية، فبعض المنظمات غير الحكومية فضلت وصف البربرية على الأمازيغية، ومثاله الأكاديمية البربرية التي أنشئت في فرنسا عام 1966 من قبل محند أعراب يسعود، لكن سرعان ما تحولت إلى التجمع الأمازيغي سنة بعد تأسيسها. كذلك توصف أزمة الهوية في حزب الشعب الجزائري بالأزمة البربرية، وعلى نفس المنوال، فضلت وصف البربرية الحركة البربرية الثقافية التي ظهرت في خضم أحداث الربيع الأمازيغي المعروف بالبربري في وسائل الإعلام، في أبريل 1980. نشير أن بعض نقاد مصطلح الأمازيغية يرون فيه نشأة استعمارية وصناعة فرنسية من قبل جاك بنيت.
3 – في صعوبة القبض على العقل الأمازيغي
هل يمكن القبض على العقل الأمازيغي؟ وكيف يتم القبض عليه في حالة الإيجاب؟ هل الحيز الجغرافي لسكان الأمازيغ كفيل بتحديد ماهية هذا العقل؟ ينتشر الأمازيغيون في شمال إفريقيا ويمتد نطاقهم الجغرافي حسب بعض الدراسات من جزر الكناري إلى سيوة بغرب مصر، ومن الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط إلى أعماق الصحراء بمالي ونيجر وليبيا حيث ينتشر بقوة سكان الطوارق.
لكن ما الذي يوحد هذه الشعوب المنتشرة بهذا الحيز الجغرافي والذي بإمكانه تحديد طبيعة العقل الأمازيغي؟ هل يمكن اللجوء إلى اللغة كما فعل الجابري مع العقل العربي؟ تنتشر عدّة لهجات أمازيغية بشمال إفريقيا وصلت بالجزائر -على سبيل المثال لا الحصر- إلى 17 لهجة أشهرها الشاوية والقبائلية والميزابية والشنوية والطوارقية والزناتية والسنوسية، ورغم بعض الأعمال التي قام بها رواد الحركة الأمازيغية في هذا الإطار كمولود معمري، فإنه لم يتم إلى حد اليوم -فيما يبدو- تقعيد نهائيا أي لهجة لتمسي اللغة الكلاسيكية الأكاديمية الموحدة للأمازيغ على غرار تقعيد اللغة العربية التي تمت في عهد التدوين.
هل يمكن الاعتماد على الكتابة أي الحروف المستعملة؟ من المعروف أنّ ثمة صراع يدور حاليا في اختيار الحروف للكتابة الأمازيغية بين اللاتيني والعربي والتفيناغ، هذا الأخير الذي يبقى الحرف الموصوف بالأمازيغي الأصلي. فهل يستطيع هذا الحرف توحيد وتقعيد اللغة الأمازيغية ومنه تحديد العقل الأمازيغي؟ نشير أنّ الكثير من مؤلفات الأمازيغ عبر التاريخ استعملوا اللغة العالمة السائدة بدء باليونانية فاللاتينية ثم العربية والفرنسية، بينما تبقى المؤلفات المكتوبة باللغة الأمازيغية عديمة الأثر إن فعلا وجدت.
ماذا عن الدين؟ هل بإمكانه تحديد ماهية العقل الأمازيغي؟ الأمر يبدو مستحيل: لقد اعتنق سكان الأمازيغ كل الأديان الإبراهيمية الآتية من الشرق، بدء باليهودية ثم المسيحية فالإسلام الذي أمسى دين الأغلبية المطلقة من سكان الأمازيغ. كما تأثرّ السكان المحليين قبل ظهور الديانات السماوية بالعبادات الوثنية اليونانية والرومانية، خاصة تلك التي لها علاقة بالخصوبة والزراعة. وتشير بعض الدراسات إلى وجود اعتقادات روحية محلية تقوم على تقديس القدماء.
4- مكانة العقل الأمازيغي بين العقول الثلاثة
مهما قيل عن خصوصية العقل الأمازيغي، فإنه يبقى ينتمي إلى العقول الثلاثة: الإسلامية والعربية والمغاربية. لقد تأثر سكان الأمازيغ بالدين الإسلامي وساهموا في إثراء اللغة العربية والمنظومة الفقهية المالكية والإباضية، وساهموا في تأسيس دول إسلامية بمذاهب متباينة أغلبها سنية المذهب، لكن هناك استثناءات: كالدولة الرستمية ذي المذهب الإباضي، والدولة الفاطمية ذي المذهب الشيعي الإسماعيلي. كما ينفرد العقل الأمازيغي بخصوصية تاريخه البعيد الذي لا يتقاسمه لا العقل العربي ولا الإسلامي، ويتلاقى بذلك بالعقل المغاربي كما حدده علي الإدريسي عن طريق بنيته الثقافية التي تمتد من العهود الفينيقية واليونانية والرومانية.
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر