
بقلم احسن خلاص
“ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون”
عند تتبع سيرة القس المونسينيور هنري تيسي يقفز إلى الذهن مباشرة هذا المقطع من سورة المائدة الآية 82. يغادرنا الرجل في عامه 91 بعد حياة كانت مثالا ودرسا يبقى للأجيال القادمة لتستفيد منه في إعادة بناء المشترك من الحياة الدينية والإنسانية مع الآخر المختلف. وبالرغم من أن ظهور كبير أساقفة الجزائر على مسرح الأحداث كان في مرحلة صراع مرير بين فرنسا الاستعمارية التي استغلت كل مقوماتها بما فيها الكنيسة لترسيخ وجودها وهيمنتها في الجزائر إلا أنه شق طريقا آخر مبني على تطويع الآخر لفلسفته في بناء العلاقة بين الجزائريين والكنيسة.
هذه هي القطيعة الأولى التي أنجزها هنري تيسي وهو يشرف على ممارسة الشعائر المسيحية في الجزائر وهي التمرد على ما رسمته الإدارة الاستعمارية ونزوعه إلى فصل الكنيسة عن السياسة تماما كما توصي به مواثيق الجمهورية الفرنسية فقد عرف كيف يرسم الحدود بين ولائه لفرنسا كوطن وبين ولائه للفاتيكان كمركز للقيادة الروحية للعالم المسيحي. أول عهد له بالمسؤولية يعود إلى عام 1955 أي أثناء الثورة التحريرية وكأستاذه الكاردينال دوفال كان موقف تيسي واضحا من النظام الاستعماري مؤيدا لحق الجزائريين في تقرير مصيرهم ونيل استقلالهم ولم تأخذه في موقفه لومة لائم.
اشتغل في وهران منذ عام 1972 وكان يشرف على كنيسة سانتا كروز التي قامت الدولة الجزائرية بترميمها تكريما واستذكارا لمأساة الرهبان الذين قتلوا على أيدي الجماعات الإسلامية المسلحين في منطقة تيبحرين. وفي عام 1988 عينه بابا الفاتيكان بولس الثاني أسقف الجزائر. وفي كل الفترات التي تولى فيها القيادة الروحية لمسيحيي الجزائر كان حريصا، ليس على إبقاء تلك الصورة التي ورثها عن معلمه دوفال الذي غير نظرة الجزائريين إلى الكنيسة رأسا على عقب وانتقل بها من قلعة صليبية استعمارية موجهة نحو اجتثاث الهوية الإسلامية إلى مؤسسة قابلة للتعايش وعنوانا للتسامح والتضامن وتقاسم هم الكفاح والبناء، بل على تعزيز روابط الأخوة وجعل مصير المسيحيين في الجزائر غير منفصل عن مصير الجزائر والجزائريين بشكل عام. فقد حرص على اكتساب الجنسية الجزائرية فمنحها له الرئيس بومدين عام 1966 نظير مواقفه المشرفة تجاه النظام الاستعماري وما لمسه من قبول في الأوساط الشعبية منذ الاستقلال والذي امتد إلى الثمانينيات من القرن الماضي.
كان هنري تيسي حريصا على تمتين الصداقة مع شخصيات فكرية ودينية جزائرية على غرار الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين عبد الرحمن شيبان ووزير الثقافة والمفكر المرموق عبد المجيد مزيان الذي تعاون معه على اكتشاف سيرة الأمير عبد القادر التي كتبها بنفسه في سجنه بفرنسا. ولعل من أهم إسهاماته التاريخية والثقافية التي تضاف إلى الكتب التي ألفها حول المسيحية في الجزائر عضويته في مؤسسة الأمير عبد القادر إلى جانب شخصيات فذة من بينها ادريس الجزائري وبوعمران الشيخ ومحمد لمين وزهور بوطالب. وهو الانتماء الذي يعده هنري تيسي عربون محبة للأمير عبد القادر الذي كان له دور حاسم وبارز في إنقاذ المسيحيين من بطش الدروز في دمشق. ولم يتوقف تيسي عند هذا الحد فقد أصدر كتابا سلط فيه الضوء على جوانب لم تنل حقها من الدراسة في حياة وجهاد وفلسفة الأمير عبد القادر.
لقد كان هنري تيسي يشعر بقربة من البعد الصوفي للرسالة المحمدية بنفس الدرجة والقدر الذي يعتبر نفسه به قريبا من الكنيسة الكاثوليكية وقد ظهر من خلال مناقشاته خلال المناسبات والندوات الفكرية التي يدعى لها فيلبي دون تردد أنه أكثر إلماما بالتراث الديني الإسلامي من قرآن وروايات وتفاسير ومحيطا بالسيرة النبوية وسيرة الخلفاء من بعده. لقد مكنته إجادته اللغة العربية التي أخذها في القاهرة من المساهمة الفكرية المؤسسة على منطلقات البناء الفكري المشترك البعيد عن كل أشكال الصدام فقد كان حريصا دائما على تبليغ أفكاره بعمق دون أن يشعر محاوره بأي شكل من أشكال الصدام. كان شغوفا ومرتبطا أشد الارتباط بشخصية الوزير الجزائري المفكر عبد المجيد مزيان ولم تنقطع صلته بالأوساط الدينية التنويرية في الجزائر إلى اللحظة الأخيرة من حياته.
ولعل من جوانب عظمة هنري تيسي أنه لم يستسلم لدعوات مغادرة الجزائر التي كانت تصدر عن الجماعات المسلحة وبالرغم من المحنة التي مر بها رجال الدين المسيحيون في الجزائر على غرار مقتل رهبان تيبحرين ومقتل قس مدينة وهران إلا أن هنري أصر على البقاء في الجزائر بدل العودة إلى مدينة ليون مسقط رأسه وهو الذي يمتلك جنسية مزدوجة. وبقي مناضلا من أجل تجسيد أفكاره حتى بعد تنحيه من منصب أسقف الجزائر. ولعلنا نتذكر عندما توجه إلى خليفته غالب بدر وهو يقول: الكنيسة الجزائرية جزء من الجزائر وأضاف والدموع تذرف من عينيه أن “مصير الكنيسة بين أيدي الجزائريين، لأن ليس لنا مصير إلا إذا أحسسنا أننا مقبولون من طرف المجتمع الجزائري”.
لقد رحل عن الجزائر والعالم المسيحي معا رجل أبى إلا أن يخرج من وجهته الكنسية الدينية ليلعب أدوارا فكرية وتاريخية وسياسية وبالرغم من توجس العارفين به علاقته بالأوساط المخابراتية إلا أنه يظل ذلك النموذج الذي ترك بصمته وقد تجد الأجيال القادمة في سيرته ما يفيدها في بناء علاقة تعايشية مع الآخر.
2 تعليقات