أقلام

هولوكوست الأغواط.. جريمة تبقى وصمة عار في جبين فرنسا

البروفيسور زديك الطاهر 

أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية جامعة الأغواط

 

إن المدينة التي تقاوم الاحتلال الفرنسي قبل الدخول تعتبر خطرا على دولة الاحتلال– الاستدمار-مما جعله يرتكب أبشع الجرائم فيها، منها تلك التي أسقطت ضحايا أبرياء بالآلالف من خلال استعمال غاز الخردل Chloroforum الكيماوي في 04 ديسمبر1852 ، ومنها ضاعت الأغواط حقوقها بين تخاذل الموقف الفرنسي و التحيز العالمي ، الذي  يدعي بأنه قوة باستعماله السلاح الفتاك ضدالضعفاء الذي دمر به الإنسان و البيئة.

تعتبر المرحلة الاستعمارية للجزائر من سنة 1830 و 1962 من قبل  فرنسا المستدمرة من أعقد قضايا العصر، فضاعت الجزائر أمام التحيز والتخاذل للمواقف الغربي،  خصوصا في المرحلة الأولي  التي استعملت فيها التجارب الكيمياوية في مدينة الأغواط بعد احتلال الجزائر بمدة 22 سنة، و التي تجاوزت حدودها باستعمالها القوة العسكرية لتنفيذ فعلتها حتى بينت بأنها عدوة المجتمع الإنساني، مبتعدة عن الأخلاق الدولية، وهذه هي  حقائق الأسلحة الكيمياوية ،  لأنه سلاح الضعفاء فإذا ما أحست بعض الدول بأنهم تعرضوا للتهميش أو أن قضيتهم تواجه مفترق الطرق فإن اليأس قد يدفع بهم الى طريقة ما حتى يلفت انتباه الآخرين، وهذا بالضبط ما جعل من مخاطر استعمال هذه التجربة الكيماوية في منطقة الأغواط الجزائرية سنة 1852 بأنها هولوكوست الفعلية.

 

مخطط إجرامي بالأغواط

 

لقد عمدت فرنسا الإستدمارية إلى تنفيذ مخططها الإجرامي في منطقة الأغواط التي تبعد عن الجزائر العاصمة ب 400 كلم جنوبا، و أن تحديد المدنية التي أجريت فيها الأفعال الإجرامية من قبلها ليس بمحض الصدفة و إنما لغرض، كون العمل الاجرامي في الأغواط يصنف ضمن الأعمال العسكرية ، من خلال استعمال الأسلحة كيمياوية و التي تعتبر شيئا جديد استعمل للأول مرة في مدينة الأغواط سنة 1852 ، لوجود مقاومة resistance على اسوارها ، وعندما تعذر الدخول استعمل الكلورفوروم Chloroforum ، حتى يبين للعالم والدول المتقدمة الإستدمارية بأنها قوة لا يستهان بها، أما الفكرة الأخرى والتي أصرت عليها فرنسا هو أن مدينة الأغواط منطقة استراتيجية بالنسبة لها بحكم الموقع الاستراتيجي – بوابة الصحراء- منها الطريق إلى صحراء الجزائر و افريقيا ، والدليل دراستها الجغرافية للمنطقة قبل تنفيذ جرمها، حيث مباشرة بعد احتلال الجزائر بدأت لجنة تحقيق عينها الحاكم  العسكري العام للجزائر في جمع الأدلة بشأن مسألة إنشاء خط سكة حديدية من الجزائر العاصمة إلى الأغواط ؛ كونها تعتبر المكان الأكثر تقدما من حيث الأهمية على حدود الصحراء، لهذا حسمت فرنسا الأمر وغلبت الجانب الاقتصادي على الإنساني واستعملت بكل أريحية جريمتها  من خلال  سلاح فتاك مازال يستعمل الى يومنا هذا، وهذا ما يجعلنا نستبعد أي قول ينكر عليه هذه الصفة، لهذا نجد إدوارد سبايرز Edward . M. Spiers يرى بأن الكلورفوروم لم يكن دائما فتاكا لكن أثر حروقه يتطلب علاجا طويل الأمد، كما أنه يبطئ كل شيء وكان لابد من العمل على تطهير مناطق برمتها من التلوث” قبل محاولة دخولها.

انطلاقا مما تقدم ذكره في معيار المكان أن الجريمة يكون لها مكان محدد ترتكب فيه، وفي نفس الوقت ربما الفعل المجرم الذي ارتكب قد يمتد الى مكان أخر، وعليه الجرائم التي ارتكبت في مدينة الأغواط سنة 1852 تحمل خاصيتين خاصية المكان الذي وقع فيه الفعل المجرم وخاصية الدخان أو الغبار العابر للحدود وبالتالي اتساع الرقعة الجغرافية بما يسمى التلوث العابر للحدود.

 

استخدام الأسلحة الكيماوية

 

إن استخدام الأسلحة الكيماوية بأشكال مختلفة منذ فجر التاريخ، كحروب الهند القديمة سنة 2000 قبل الميلاد، وحروب التتار، كلها كانت تستعمل جثث القتلة لتلويث المياه و تسميمها، وهذا جرم استعملته فرنسا عند ما قتلت سكان الأغواط و رمي الجثث في الآبار الصالحة للشرب – وهذه جريمة أخرى- ، تضاف الى الطريقة التقليدية القاتلة، في استعمال الأسلحة الكيماوية ، عن طريق المدفعية التقليدية البدائية وتقريبا تلك التي يستعملها نابليون في حروبه، لكن في ما بعد بقيت المادة الكيمائية نفسها لكن طريقة استعمالها أو الوسائل المساعدة لها هي التي تطورت عبر الزمن، لأن الحروب التي تم فيها هذا السلاح مثلا في حرب الفيتنام وحرب الخليج والعراق و سوريا وقطاع غزة ، استعملت المواد الكيمياوية التي ترمى بواسطة الطائرة الحربية. إذن الأسلحة الكيماوية والجرثومية ليست شيئا جديدا فهي موجودة منذ 1852 أين استعملت في مدينة الأغواط بتاريخ 04 ديسمبر 1852 على الساعة 07 صباحا، من خلال هجوم عن طريق المدفعية، جراء المقاومة التي دامت للأكثر من ستة 06 ” أشهر، ثم بعد ثلاثة وستين 63 سنة استعملها الألمان كسلاح – الكلورفوروم – لهم في هجومهم على الخنادق البريطانية سنة 1915 في الحرب العالمية الأولي، و بعد 163 سنة مازال يستعمل.

 ومن خلال عرض جانبه الزماني نلاحظ السلاح الكيمياوي مر بمرحلتين الأولي من تاريخ 1852 الى غاية 1915 وهذه المرحلة لم تشهد تطورا كبيرا في الكلورفوروم و الدليل تم استعماله بنفس الطريقة التي طبقت في مدينة الأغواط و بريطانيا رغم المدة كانت طويلة وكافية لتطويره وهي 63 سنة، أما المرحلة الثانية وهي تبدأ من تاريخ 1915 أي الحرب العالمية الأولي و إلى غاية الحرب العالمية الثانية لم يأخذ مدة كبيرة في تطويره، حيث وما إن بدأت أول فكرة لم يستغرق الوقت إلا 30 عاما حتى تتمكن العبقرية البشرية من ابتكار أسلحة الدمار الشامل القادرة على إبادة الحياة برمتها على سطح الأرض، وأول عمل بهذه الأسلحة كان مع نهاية الحرب العالمية الثانية في اليابان هيروشيما ونكازاكي سنة 1945 حيث أظهرت قدرة الإنسان الفاشل على إبادة البشرية، إذن المعيار الزمني أنتج لنا فكرة واضحة المعالم وهي يمكن تصنيف الأسلحة الكيماوية حسب شدة تأثيرها، أو حسب إمكانية السيطرة عليها والحد من سرعة انتشارها، من خلال المسارعة إلى وضع معاهدات وبرتوكولات منها اتفاقية لاهاي لسنة 1899  التي نصت في المادة 42 من القسم الثالث المتعلق بالسلطة العسكرية على الأراضي المعادية لها ” بعد أن انتقلت السلطة الشرعية فعليا إلى يد المحتل ، يجب على الأخير … تأمين النظام العام والسلامة العامة ، قدر الإمكان ، …”  ومعنى هذا إذا سلمنا بأن احتلال الجزائر كان سنة 1830 و التوغل في الجنوب ودخول مدينة الأغواط بعد 22 سنة، من خلال معركة كبيرة دامت 06 أشهر استعمل فيها سلاح محضور ، فأي تأمين للنظام العام والسلامة العامة ، من خلال هذا نجد أن الجريمة تنفرد بخاصية الاستمرارية بسبب عناصرها المادية التي تأخذ وقتا طويلا، وبالتالي الفعل سواء كان مشروعا أو غير مشروع فإنه يحقق آثارا مادية موجودة على أرض الواقع، لذا فإن الأفعال التي قامت بها فرنسا أثناء دخولها مدينة الأغواط باستعمالها الكلورفوروم Chloroforum قد خلفت آثارا بشرية وبيئية، لوجود مقاومة وقوة من السكان المدافعين عن مدينتهم الذين صدوا عدة هجمات التي باءت كلها بالفشل، باستثناء الهجمة الكيمياوية ، و التي تمت بناء على دراسة مسبقة التي خطط لها قبل من خلال جولة استطلاعية التي قام بها الجنرال ماريموش Général Marimushe سنة 1844 ،حيث قام بدراسة ميدانية للمنطقة حتى يتم احتلالها، وهذا دليل على أن مدينة الأغواط شهدت مقاومة من سكانها ضد جنرالات فرنسا قبل و أثناء و بعد الاحتلال وهي ميزة التي انفردت بها مقاومة الأغواط – منها بن ناصر بن شهرة التي دامت 24 سنة 1851 الى غاية 1875– .

 

فيلق الجنرال جوسيف

 

 أما التحضيرات فرنسا فقد تقدمت بجيش يفوق تعداد السكان المدينة، يتكون من فيلق للجنرال جوسيف Général Yusuf و فيلق للجنرال بليسيGénéral Pelissier  و الجنرال بسكارين Général Bouscaren ، و العقيد كلير colonel Jean Joseph Gustave Cler ، والرائد موراند Le commandant Morand، الرائد مالافوس le commandant Malafosse، اختصاص مدفعية، أما اختصاص مشاة منهم الفيلق الذي يقوده الملازمLieutenant. Auguste Désiré Louis Marie Lemontagner ، و العريف جوزيف فينسندون ، الملازم لويس تشارلز أوغست موران Lieutenant.Louis Charles Auguste Morand ، كلها كانت على أهبة استعداد القسوة، وحسمت المعركة بـ 2300 شهيد من مدينة الأغواط وهو رقم من أصل 3600 أي نسبة تفوق ثلاثة أرباع السكان 3/4، وفي الجهة الفرنسية لقي الجنرال بوسكارين Bouscaren حدفه مع مجموع من الضباط و الجنود الفرنسيين.

وفي مذكرات ضابط فرنسي غفاريل Gaffarel” عندما أخفينا كل الموتى خاصة في الآبار أخذ بئر الواحد 256 جثة …. كانت المجزرة رهيبة… الطرقات مليئة بجثث الموتى تفوح … رائحة الجثث المتعفنة… مقابر جماعية كبيرة… ” الهولوكوست L’Holocauste

لهذا قد نتفق على وجود مسؤولية دولية كونها في نظري وضع قانوني تلتزم بموجبه الدولة التي ينسب إليها ارتكاب فعل غير مشروع وفقا للقانون الدولي بأن تصلح الضرر الذي لحق بالدولة التي ارتكب في مواجهتها هذا الفعل ، لكن يختلف الفقهاء في طرحهم أو تناولهم للموضوع ، فـــ Arechaga De ” يرى بأنها العلاقة الجديدة التي تنشأ عن انتهاك لواجب دولي وبمقتضاه يلتزم الشخص الذي ينسب إليه الانتهاك بأن يقدم إصلاحا كافيا للضرر الذي لحق بشخص دولي أخر “،  أما George scelle يقول” بأن المسؤولية الدولية تبدأ بضرر وتنتهي بتعويض”؛ إذن نجد بعض التعاريف للمسؤولية الدولية تصب في خانة العمل غير المشروع، وعلية مدام أن ” الكلورفوروم Chloroforum ” الذي يعتبر مادة كيمياوية استعملت في قتل المدنيين العزل بمدينة الأغواط من قبل عسكريين فرنسيين، فهي أفعال غير شرعية ، وبالتالي حتى لا تقوم المسؤولية الدولية على فرنسا أن تثبت مجموعة من الاشكاليات منها على سبيل المثال أولها لو سلمنا بأن الجزائر بلد مستقل سنة 1852 فالحرب التي خضتها فرنسا على مدينة الأغواط التي هي جزء من الجزائر نقول مشروعة لأنها حرب بين دولتين تخضع مثلها مثل الحروب الأخرى الى الاتفاقيات التي تضبطها، لكن عندما تكون الجزائر العاصمة تحت الاحتلال منذ 1830 بمعنى السيطرة الكلية فهنا المحتل يكون مجبرا على تطبيق نص المادة 42 من القسم الثالث المتعلق بالسلطة العسكرية على الأراضي المعادية لها و التي نصت ” بعد أن انتقلت السلطة الشرعية فعليا إلى يد المحتل ، يجب على الأخير … تأمين النظام العام والسلامة العامة ، قدر الإمكان ، …” ، واعتقد هنا أن فرنسا قد أخلت “عفوا” طبقت نص المادة الذي يحث علي التأمين والسلامة باستعمالها الكلورفوروم Chloroforum ، لهذا تقوم المسؤولية الدولية، التي تعد من أقدم المبادئ القانونية التي حكمت بين الجماعات في العصر القديم، الذي ساد فيه نظام الأخذ بالثأر من عهد حمورابي و الذي مازال الى اليوم وإن كان بطرق أخرى، لهذا نجد كليد  إيجلتون  clyde Eagleton يرى في ” القانون الذي كان سائدا في “العصور الغابرة ” قديما وفق ” العين بالعين و السن بالسن” “An eye for an eye and a tooth for a tooth“، هذا الطرح مطبق على الدول و على الأفراد دون تميز ” ويرى أن ما يلتزم به الفرد في الجماعة يعتبر ملزما لكل أفراد الجماعة ، ومقتضى هذا أن الجماعة تعتبر مسؤولة عن الجرائم التي يرتكبها أحد أعضائها و التي لم تستطع منعه من إرتكاب الفعل، وكان هذا النظام متبع في القرون الوسطى  Middle Ages، هذه النظرية هي جرمانية Germanic الأصل و تقيم المسؤولية على التكافل أو التضامن، Solidarity، مما نستنتج أن فرنسا مسؤولة ، وأن المجتمع الأوروبي مسؤول مسؤولية جماعية على الانتهاكات التي قامت بها فرنسا في مدينة الأغواط ،لكن ومع ناهية العصر الوسيط Middle Ages و بداية تشكل الدولة الحديثة بدء التخلي عن المسؤولية الجماعية Collective .responsibility لصلح المسؤولية الشخصية Personal responsibility المبنية على عنصر الخطأ. 

 

المسؤولية الدولية

 

فكان للمضرور أن يثأر للحق المعتدى عليه بذاته ووفق ما تمليه عليه غريزته ودون أي حدود وكان هذا يتسق مع مبدأ الذي كان سائد في تلك الحقبة من أن ” القوة تنشئ الحق وتحميه”. وثانيها على فرنسا أن تثبت أنها كانت تخوض في حرب في منطقة جغرافية لا يمتلكها أحد وليست عليها سيادة من قبل أي سلطة لا بتاريخ 1830 ولا بتاريخ 1852، لأنه كذلك لو سلمنا بهذا الأمر وقلنا بأنه لا توجد دولة ولا حكومة، فالشق الأول من القضية ما هو حكم القنصل الفرنسي المتواجد في الجزائر سنة 1827، والشق الثاني ما حكم ديون فرنسا المستحقة للجزائر. إن الإجابة على هذه التساؤلات في باب المسؤولية الدولية تجعلنا أمام أمر واقع إما تركه – موضوع المسؤولية الدولية-أو الخوض في قانون المسؤولية الدولية الذي وجد في القرون الوسطى على اساس مسؤولية جماعية، اذن نستنتج من خلال خاصية – الاستمرارية-أن الجرائم التي استعملتها فرنسا في الجزائر خصوصا في موضوعنا الذي تناولناه على مدينة الأغواط هي جرائم ابادة Genocide crimes وضد الانسانية crimes against humanity. 

وبإيجاز شديد يمكن القول بأن الجرائم الفرنسية بحق الجزائر، لا يمكن أن يرتكب أبشع منها بحق وطن وشعب وبحق الإنسانية فيما أرتكب من إجرام دولي، لا من قبل ولا من بعد، كما لا يوجد عرف أو وثيقة أو ميثاق دولي أو أي قانون دولي لم تخرقه فرنسا من 1830 الى غاية 1852 وما بعدها، مما يحتم قيام المسؤولية الدولية بحقها.

أختم موضوعي بأن فرنسا لا يمكن لها اعادة الوضع الى ما كان علية في السابق، وأن الجرائم لا تسقط بالتقادم، بمعنى خاصية استمرار الجريمة، مما يجعل فرنسا إما الاعتراف بالجرم والاعتذار مع التعويض، أو تبقى أمام الرأي العالمي دولة مجرمة، وتنتقل المسؤولية الى شعبها. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى