
محمد بسكر
تعتبر ثورة محمد المقراني ومحمد أمزيان الحداد سنة 1871م، من أعنف الثّورات وأشدّها وأكثرها اتّساعا بعد مقاومة الأمير عبد القادر، استوعبت مناطق واسعة من شرق البلاد ووسطها وجنوبها، وكان من أبرز قادتها السعيد بن بوداود، صهر محمد المقراني وابن عمه، والمكلف من قبله بقيادة الثورة في جبال الحضنة وبوسعادة وأولاد نايل، سبق أن أرسله إلى بوسعادة رفقة الشيخ جنان بن الدري زعيم أولاد نجاع، لتثبيط النّاس ومنعهم من التجنيد في صفوف قوات الاحتلال التي كانت تجهز للحرب في أوروبا، وقد كلّل مسعاهما بالنّجاح.
حدثت اضطرابات كبيرة في مدينة المسيلة قُبيل أن يعلن المقراني ثورته، وتخوّف الأوروبيون المقيمون بها، وشعروا بالخطر يهددهم، فقرّروا الرّحيل عنها جنوبا إلى مدينة بوسعادة، فحملوا أمتعتهم واتّجهوا إليها بتاريخ 25 فيفري 1871م، رافقهم في هذه الرّحلة قائد الحضنة السعيد بن بوداود، الذي ضمن حمايتهم وأوصلهم إلى البلدة سالمين، غير أنّ أوضاع بوسعادة كانت لا تختلف عن المسيلة من حيث كثرة الاضطرابات والشّائعات باقتراب إعلان الثورة، وبأنّ الثّوار سيهاجمونها يوم 2 مارس بمناسبة عيد الأضحى، ممّا حذا بالكومندان ” دوشيرون” استدعاء رئيس الفرقة الثامنة بسطيف، وتكليفه بقيادة الحرس والاستعداد للطوارئ.
نداء لأعيان المسيلة وزعماء الأعراش
وجّه محمد المقراني نداء لأعيان المسيلة وزعماء الأعراش يدعوهم إلى الجهاد والثورة، فوجد استجابة عند أغلبهم، وانضمت إلى ثورته معظم قبائل منطقة بوسعادة: أولاد ماضي، وأولاد عبد الله، والهجارس، والسلامات في وادي اللحم، وفي الجنوب أولاد عامر وأولاد سيدي إبراهيم، وأولاد عمر، وأولاد خالد.
تمركّز السعيد بن بوداود بأتباعه شمال بوسعادة، وقطعت قواته الطريق على الإمدادات القادمة من الشمال للحامية العسكرية بها بداية من شهر مارس 1871م، ممّا عزلها عن بقية المدن، فعانت الحامية الفرنسية والأهالي ندرة المؤونة مدّة أربعة أشهر. كان نشاط ابن بوداود خاضعا لرقابة أعوان فرنسا الذين زوّدوا الجنرال ” سيريز” حاكم سور الغزلان، بمعلومات عن تحركات قواته، أمثال الآغا بوزيد الذي راسل الجنرال ” سيريز” بتاريخ 10 ماي 1871م، وأخبره بالتفاف النّاس والأعراش حول قادة الثورة ، وبتاريخ 19 جوان قام الثوار بقطع خطوط التلغراف الرّابطة بين بوسعادة والجلفة، وهاجموا الجنود الفرنسيين المتواجدين بقصر العليق، غير أنّهم لم يفلحوا في اقتحامه، كما هاجموا الفرنسيين بسيدي عيسى يوم 7 جويلية ، ثمّ ركزوا جهودهم على محاصرة بلدة بوسعادة ومحاولة فكّها من قبضة الاحتلال لأهميتها الاستراتيجية، فشنوا حملة عليها يومي 20 و21 جويلية، ثمّ عسكر سعيد بن بوداود بجنوده قرب قصر الديس، وتجمع حوله الثوار واشتركوا في شن الهجوم الواسع على بلدة بوسعادة بقوات قوامها 1500 مقاتل، انتهى بمعركة عنيفة في الجهة الشرقية للبلدة بـ (جنان البطم) بتاريخ 23 جويلية 1871م، ولم تفلح جهودهم، بسبب التحصينات الشّديدة التي أقامها المحتل حول البلدة، ونجم عن هذه المعركة سقوط قرابة 30 شهيدا من الثوار إضافة إلى عدد من الجرحى.
المقدم الفرنسي ” تروملي”
تلقى المقدم الفرنسي ” تروملي” trumelet في أواخر جويلية أوامر لحشد كلّ الإمكانات من أجل تحرير وتموين مركز بوسعادة المحاصر، وقد تقدمت قواته من ” أومال” (سور الغزلان) باتجاه المنطقة، وكانت مكونة من قافلة تحوي 77 ضابطا، و 1964 جنديا، إضافة إلى 308 فرسا و 184 بغلا. وانضمّت إليها فرقة من ” القوم” تضم 500 نفر، وقافلة مكونة من 1500 جمل و 500 بغل، وفرقتين من المشاة.
وبداية من مطلع شهر أوت خاض الثوار الكثير من المعارك في محيط بوسعادة امتدّت إلى ملوزة، وتجمعوا بعد ذلك بكاف لعقاب بزعامة الحاج بوزيد شقيق بوداود، وعلي بورنان قائد المعاضيد، وبتاريخ 5 أوت اصطدموا بقوات الجنرال ” سيريز” المتجهة إلى بوسعادة، وخاضوا معها معركة عرفت بمعركة “كاف لعقاب”.
كان الدّعم الأساسي للثوار في منطقة بوسعادة يأتي من أولاد سيدي رابح، من فروع عرش أولاد سيدي إبراهيم الغول، فهؤلاء كانوا من المرابطين المتمردين، الذين اتّخذوا من قصر (بنزوه) بجبل السّالات مقرا لإقامتهم، ولم يسبق للقوات الفرنسية أن دخلت منطقتهم أو احتكت بهم، واضطر جيشها إلى تسلق جبل السّالات الصعب للوصول إليهم بتاريخ 8 أوت 1871م، وباغتتهم فلم يستطيعوا تنظيم مقاومتهم، فأمر العقيد ” تروملي” شيخ العرش ” قويدر بن أحمد” أن يطلب من قومه الاستسلام، وجمع كلّ الأسلحة الموجودة بالقصر، وإلّا كلّف القناصين الأفارقة بتفتيش منازلهم، ممّا اضطر الجماعة إلى الامتثال والإتيان بالأسلحة من كل الأنواع، وتمّ اعتقال الشيخ قويدر بن أحمد وجماعته، كما انسحب أولاد سيدي إبراهيم من قصر الديس إلى الجبال القريبة، وتوجه عدد منهم إلى الشرق، وبتاريخ 9 أوت 1871م دخل “تروملي ” بجيشه قصر الديس، فوجده خاليا من السّكان فقامت قوة من الزّواف التّابعة للاحتلال بمطاردتهم، وتمشيط الجبال المحيطة بالبلدة، وخاصة جبل البيرش.
الحملات العسكرية الفرنسية العنيفة
أدّت الحملات العسكرية الفرنسية العنيفة على المقرانيين بمجانة والمسيلة وبوسعادة إلى تقهقر الثوار، وخاض السعيد بوداود عددا من المعارك، واعترض القوافل القادمة باتجاه بوسعادة والمسيلة، فهاجم بداية من شهر أوت قافلة تموين فرنسية كانت في طريقها إلى المسيلة بمنطقة (ضاية العتروس)، ويوم 7 سبتمبر عاد إلى المسيلة عن طريق سيدي هجرس، فوصلها بتاريخ 20 سبتمبر، ووضع خطة مع أبناء عمومته من أجل إجلاء عائلات أولاد مقران، وما بقي من متاعهم بعدما ظهر تصميم الفرنسيين على ملاحقتهم ومصادرة أموالهم، لجأ أولاد مقران إلى جبال المعاضيد بمعية السعيد بن بوداود ولحق بهم (بومزراق المقراني)، وبعد آخر معركة بهذا الجبل انهزم فيها المقرانيون بتاريخ 8 أكتوبر 1871م في المكان المعروف بـ” بقبر السلوقي” بجوار قلعة بني حماد، حيث استولى الجنرال ” سيريز” على زمالة ( بومزراق) بما فيها من متاع وحبوب وماشية، قرّر أولاد مقران مغادرة مواقعهم نحو الجنوب، أملًا في الوصول إلى تونس عن طريق ورقلة، فأسرعوا في المغادرة مخلّفين وراءهم مجموعة من فرسان الحشم لحماية مؤخرة القافلة ولإشغال الجيش الفرنسي.
أمر الجنرال “سيريز” قوات من القوم والأصبايحية بمطاردتهم، فوصل أولاد مقران إلى سد الجير مساء يوم 9 أكتوبر، ولحقت بهم قوات من عرش الخرابش إلى ناحية لقمان بتاريخ 11 أكتوبر 1871م، فلم يعثروا إلّا على آثارهم، ثم لحقوا بهم إلى ناحية سد الجير، كما تحرك الآغا الزواوي قائد العذاورة بقواته نحو القارصة بتاريخ 12 أكتوبر 1871م ولم يتمكن منهم، كانت قافلة أولاد مقران قد انتقلت إلى العقلة البيضاء بشط زاغز الشرقي، حيث مضارب أولاد عامر، ثم وادي امجدل، وقد فشل الفرنسيون في اعتراض طريقهم، وفشل الموالون لهم من القوم، أمثال الزواوي قائد العذاورة، وبلقاسم بلحرش باشاغا أولاد نايل وأولاد بن زكري في اللّحاق بهم، فاستطاعوا اختراق جبال أولاد نايل يوم 14 و15 أكتوبر سنة 1871م، والتّوغل نحو الجنوب.
كان من نتائج ثورة المقراني بمنطقة بوسعادة ما يلي:
* استشهاد 12 ثائرا من أولاد سيدي إبراهيم، وغنائم معتبرة أخذها العدو.
* أحرقت القوات الفرنسية قصر الديس العتيق، واستخدمت البارود لتفجير المنازل التي لم تطلها النار، وتمت المحافظة على منازل السكان الذين انتقلوا إلى بوسعادة مباشرة بعد مجيئ الثوار.
* استسلام أحد قادة الثورة بالديس، وهو السيد “رحمون بن السنوسي” مع جماعته، وتمّ وضعهم تحت رهن الاعتقال.
* تمّ فك الحصار على بوسعادة، بتاريخ 10 أوت 1871م، وقام جنود الحامية الفرنسية والقومية بقيادة الصخري بن بوضياف، بإخراج الأهالي لاستقبال الجيش الفرنسي، وادّعى النقيب ” لويس رين” – رئيس المكتب العربي بسكرة ومؤلف كتاب تاريخ ثورة المقراني- كذبا، بانّهم من المؤيّدين للفرنسيين، ولا غرابة في هذا الادّعاء؛ لأنّ منهجه في كتابه لا يخرج عن منهج المؤرّخين الفرنسيين المبني على تشويه الحقائق والإساءة للجزائريين.
* وضع الاحتلال الفرنسي المساجين والرّهائن الذين أحضروهم من (بنزوه) و( الديس) في مكان آمن في انتظار قرار السلطة الإقليمية؛ لأنّ بوسعادة كانت تابعة آنذاك لمقاطعة (سطيف)، منطقة (قسنطينة).
* هجرة الكثير من قبائل الحضنية لمناطقها وفرارها في اتجاهات مختلفة خوفا من بطش الاحتلال، ونزول أغلبهم في الدوائر التابعة لمقاطعة الجزائر، لأنّه لم يشملها قرار مصادرة الأملاك والضريبة المطبق على مقاطعة قسنطينة، فاتّجهت من عرش أولاد ماضي 200 خيمة نحو سور الغزلان، ومن أولاد عدي 200 خيمة نحو باتنة، ومن أولاد سيدي إبراهيم ما يقرب 50 خيمة نحو ونوغة.
* انسحب العقيد ” تروميلي” من بوسعادة بتاريخ 15 أوت 1871م، وأخذ معه عشرة أسرى من الأعيان الأكثر نفوذا وخطورة من أشراف الحي القديم ببوسعادة، وقصر الديس وبنزوه.
* قامت القوات الفرنسية بقيادة ” دولاكروا” بمطارة فرقة أولاد سليخ من أولاد عامر بتاريخ 11 نوفمبر 1871م في الموضع المسمى بالخرزة، أسفرت المطاردة على استشهاد عدد كبير منهم، واستلاء الفرنسيين على مواشيهم.
* استقبل الشيخ محمد بن أبي القاسم شيخ زاوية الهامل، المقرانيين الفارين من العدو، وأسكنهم بجوار الزاوية، وحماهم وعلّم أولادهم، وقدّر البعض عددهم بثمانين أسرة، ونسلهم الآن موزّع بين الهامل وبوسعادة وعين بيوسف والجزائر العاصمة.
* ازداد تسلط الاستعمار على الجزائريين بمصادرة أموالهم وفرض الإتاوات، والقضاء على نفوذ العائلات الكبيرة، فشملت العقوبات عائلات من عرش أولاد عامر، وأولاد فرج، وأولاد عمارة، وأولاد خالد، وأولاد سيدي إبراهيم، وفي داخل البلدة القديمة بأبي سعادة أمر العقيد “تروميلي” باعتقال المشتبه بهم من الحي العلوي ( القصر) وتجريد سكانه من السلاح، وأسر كلّ الذين قيل عنهم أنّهم من المحرضين أو الأكثر تورطا، فشملت العقوبات كبار فرقة أولاد حركات، وأولاد عتيق، منهم العوبي بن بلقاسم وأبنائه وإخوانه، وسي الطيب بن محمد وأبنائه وإخوانه، وزروق بن قويدر وأبنائه وإخوانه، وفي نص وثيقة مرسلة بتاريخ 15 أفريل 1878م إلى الحاكم العام بالجزائر من قبل بعض العائلات البوسعادية وصف لمعاناتهم بعد مصادرة العدو لممتلكاتهم، من بينها عائلة السيد عبد القادر بن سالم، أحد وجهاء البلدة، الذي اعتقل وتمّ الاستلاء على أمواله سنة 1872م، وبعد ست سنوات تقدّم أفراد الأسرة بشكوى إلى الحاكم العام، وضّحوا فيها الغبن الذي لحقهم، وطالبوه أن يأمر بإرجاع ممتلكات والدهم، ومّما جاء في هذه الوثيقة:« كما يطلب منك أولاد سيدي عبد القادر أن ترد عليهم ملك أبيهم، الذي حازته الدولة، لكون أباهم لم يكن صاحب جرم ولا ذنب، ولا فعل شيئا أبدا، وأولاده: عبد الله، وابن الحاج، ومحمد، وابن سالم، وعبد القادر، وعبد الرحمن، وكلهم صغار »، لا نعرف هل رد الاحتلال لهم ممتلكاتهم أو جزءا منها، والظاهر أنّه أعاد لهم البعض، كما فعل مع عائلة الثائر “محمد بن شبيرة”، كما لا توجد معلومات توضّح مصير والدهم ( سي عبد القادر بن سالم ).
للموضوع مصادره