
يتفق معظم الباحثين على أن النظام الدولي، أو بشكل أوضح الجملة السياسية التي تشمل العالم كله، هو إطار فوضوي غير هرمي تتوزع ضمنه قوى (دول)، وهذه القوى هي وحدات متشابهة وظيفياً. تتبادل الوحدات التأثير فيما بينها استناداً إلى قانون التآثرات interactions، أي التأثير والتأثير المتبادل أو مبدأ الفعل ورد الفعل أو الحاجة والاستجابة، ولا يوجد في الحقيقة آلية أخرى لتشكّل العلاقات الدولية. وبالرغم من رصانة ودقة وبساطة هذا التعريف، إلا أن التنبؤ بسلوك (الجملة السياسية) أو (النظام السياسي) Political system يظل عصيّاً بعيد المنال، ويكمن السبب في أن هذه الوحدات الوظيفية المتآثرة، هي قوى متعددة الأبعاد، الأمر الذي ينجم عنه عدد ضخم من العلاقات على مختلف المستويات.
وهكذا، تنشأ حالة من التنافس بين الدول، نتيجةً للاختلاف في الدوافع والتصورات والأهداف والتطلعات و الموارد والإمكانات، قد يتطور هذا التنافس ليصل إلى حد الصراع، أي المواجهة المباشرة والالتحام، أو في أسوء الحالات الحرب.
في الواقع، تتنافس العديد من الدول (الصين، الولايات المتحدة، روسيا، دول الاتحاد الأوروبي، تركيا، الهند، إيران، البرازيل، السعودية، كوريا الجنوبية …الخ) على أفريقيا، والسبب هو غنى هذه القارة بالموارد والثروات. ووفقاً للمعطيات المتوفرة فإن الصين والدول الغربية سبقت روسيا في التغلغل في القارة الأفريقية، من هنا تكتسب مسألة الحضور الروسي أهميتها ومبرراتها.
استناداً إلى هذه المقدمات، يمكننا صياغة المسألة التي نريد بحثها على الشكل التالي:
إلى ماذا سيؤدي الحضور الروسي في القارة الأفريقية؛ فهل سيكون عاملاً في زيادة الاستقرار أم التوتر، وهل سينعكس سلباً أم أيجاباً على البلدان الأفريقية؟
في الحقيقة، هناك الكثير من القرائن والحجج التي تؤكد أن الحضور الروسي في القارة السمراء سيكون عامل استقرارٍ ونهضة وتقدم لبلدان القارة و عاملاً إيجابياً في استقرار النظام الدولي بمجمله. وفيما يلي بعض من هذه الحجج:
- للغرب تاريخ استعماري أسود في القارة الأفريقية، وما زالت الدول الغربية تتعامل معها على هذه الخلفية؛ إذ تؤكّد العديد من التقارير أن هناك الكثير من الإجحاف والظلم في الاستثمارات التي يقوم بها الغرب في إفريقيا، بالمقابل كان الاتحاد السوفيتي نصيراً لكل حركات التحرر الوطني في العالم.
- أكّدت روسيا في الكثير من المناسبات على ضرورة بناء النظام العالمي استناداً إلى الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، والحقيقة أن العديد من دول العالم الثالث عامةً، والأفريقية خاصةً، تعاني من السياسات مزدوجة المعايير والتلاعب بتأويلات القانون الدولي من قبل الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، لذلك فإن تمتين العلاقات الأفريقية الروسية سيكون له دوراً كبيراً في نصرة القضايا الأفريقية، خاصةً أن روسيا هي عضو دائم في مجلس الأمن الدولي.
- يهدد انتشار الجماعات الإرهابية الكثير من الدول الأفريقية، ولقد أبدت روسيا نجاحاً مميّزاً في محاربة الإرهاب في سورية والعراق مقارنةً مع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، لذلك تستطيع البلدان الأفريقية الاستعانة بالخبرات الروسية لتخليصها من خطر الإرهاب.
- ستقوم روسيا باستثمار فوائضها المالية ضمن مشاريع صناعية معينة، وهذا سيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة أمام الأفارقة وبالتالي تحسين الوضع المعاشي للمواطنين.
- ستنفتح الأسواق الروسية وأسواق الجمهوريات السوفيتية السابقة أمام المنتجات الأفريقية، وخاصة المنتجات الزراعية والحيوانية، وهذا سيساهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي للدول الأفريقية.
- ستجد البلدان الأفريقية نفسها أمام خيارات أوسع من منتجات الصناعة؛ وليس فقط المنتجات الغربية، وهذا يعني ترشيد استخدام الثروة وانتقاء المنتجات الأكثر كفاءة.
يؤيد هذه القرائن جميعها الإقبال الأفريقي الكبير على حضور القمة الروسية-الأفريقية والمنتدى الاقتصادي المرافق، اللذان سينعقدان يومي 23 و 24 تشرين أول الجاري؛ إذ أنّ أكثر من 40 زعيماً أفريقياً أكّد حضوره؛ لذلك فإنّنا نعتقد أنّ هذا الحدث التاريخي الكبير سيكون مفصلاً هاماً في تاريخ العلاقات الروسية الأفريقية والعلاقات الدولية أيضاً.
= = = = = = = = = = = = = = =
* آصف ملحم: خبير في مركز الأوضاع الاستراتيجة في موسكو