
بقلم: صالح عوض
يقول تشي جيفارا: الذي قال إن الفقر ليس عيبا كان يريد أن يكملها: بل جريمة ولكن الأغنياء قاطعوه بتصفيق حار!!.. وفي الأثر عن إبراهيم عليه السلام: أن الفقر أشد من نار النمرود.. أما لقمان الحكيم فروي عنه قوله لإبنه: إني ذقت الصبر وأنواع المر فلم أر أمرّ من الفقر.. وفي نهج البلاغة يروى عن الإمام علي قوله لإبنه محمد بن الحنفية: إن الفقر منقصة للدين مدهشة للعقل داعية للمقت.. أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقد رأى في الفقر رديفا للكفر وعذاب القبر فقال: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر”.
لا يمكن النظر إلى تفقير شعوب أمتنا من غزة إلى كل بوادينا وقرانا ومدننا في وطننا العربي بل وشعوب العالم إلا على اعتبار أن ذلك شرط لهيمنة المحتكرين والفاسدين، ولإبعاد الناس عن الحياة الحرة الكريمة بإشغالهم في رغيف الخبز الذي يقودهم إلى أنواع المهانات والمذلة وكل المفاسد وعلى رأسها الإرتكاس في التبعية ولا ينجو من ذلك إلا القليل.
ثروتنا وفقرنا:
لا يقف الأمر عند عجز حكوماتنا في إطلاق عجلة التنمية والنهضة في التصنيع والتجارة وتوفير مصادر إنتاج أخرى غير الطبيعية بل وصل العجز في الحد الأدنى من المعيشة حيث تم تكريس واقع الفقر والجوع في مجتمعاتنا العربية حيث يعاني 40 مليون عربي من الفقر المدقع ونقص التغذية، فيما يعيش أكثر من 100 مليون تحت خط الفقر وتسجل الإحصائيات 60 مليون عربي لا يعرفون الكتابة والقراءة.. كيف يمكن تفسير ظاهرة الفقر في وطننا العربي؟ وطن يبلغ دخله القومي سنويا 2.7 تريليون دولار على الأقل ويعج بالثروات الطبيعية والبشرية بالنفط والثروة المعدنية والأراضي الزراعية والمناخ المناسب والأرض الفسيحةّ!! وطن يصدر 30 بالمائة من الإنتاج العالمي من النفط ويحوي أكثر من 55 بالمائة من احتياط العالم من النفط، وكذلك من الغاز حيث يبلغ احتياطي الوطن العربي أكثر من 27 بالمائة من الاحتياطي العالمي وتمتلك من الثروة الحيوانية ما يقارب 400 مليون رأس من الأبقار والجاموس والأغنام.. وفي السودان وحده نصف هذه الكمية فكيف نفهم جوع السودانيين وفقرهم وهم يعيشون في بلد به ثروة حيوانية وقدرات زراعية وأرض خصيبة بإنتاج كان يمكن أن يكفي الوطن العربي. وكذلك الصومال وجيبوتي و موريتانيا واليمن؟ فتضطر السودان للتمزق والتطبيع مع العدو، وتذهب موريتانيا لجلب الصهاينة بمخلفاتهم النووية لدفنها في صحراء موريتانيا، وتبيع جيبوتي سيادتها لقواعد عسكرية أجنبية، أما الصومال الغني بثروته الحيوانية وموقعه الاستراتيجي فيتمزق ويصبح مرتعا للأجانب.. وعلى ذلك فقس.
وفي الطريق تصدمنا الأرقام ونحن نتابع حجم الفساد والقتل والتشريد والتدمير في بلداننا.. ففي السنوات الأخيرة مثل اللاجئون العرب 75 بالمائة من اللاجئين عالميا كما تم تشريد 14 مليون عربي وقتل وجرح 6 مليون عربي في العراق وسورية..
ومن خلال إطلاله على الفقر في الوطن العربي يفيد البنك الدولي ان 60 بالمائة في المغرب يعيشون الفقر و 8 مليون تحت خط الفقر.. و2.5 طفل بلا تعليم.و83 بالمائة من النساء في المناطق الريفية بلا تعليم.. وفي السودان يصل 80 بالمائة من الناس الى عتبة الفقر.
كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر ارتفاع معدلات الفقر في البلاد لتصل إلى 32.5 في المائة من عدد السكان، بنهاية العام المالي 2017/ 2018، مقابل 27.8 في المائة لعام 2015/ 2016.. ولازالت معدلات الفقر في تصاعد نتيجة إجراءات اقتصادية معينة.
وفي العراق ورغم ثروته النفطية الهائلة الا أن 20 بالمائة من الشعب العراقي يعيش تحت خط الفقر في وضع يتفاوت بين المحافظات حيث يبلغ 50 بالمائة في ذي قار والمثنى وبعضها بلغ 7 بالمائة في أربيل وكركوك.
وفي سورية تفيد تقارير الأمم المتحدة أن أزمة الجوع تتفاقم وان 90 بالمائة من الشعب تحت خط الفقر وان 10 مليون شخص بلا غذاء كامل.
وفي تونس تزداد معدلات الفقر والبطالة حيث بلغت نسبة الفقراء تحت خط الفقر من 15 بالمائة في بعض المعتمديات الى 45 بالمائة في مناطق الوسط والشمال وولايات الجنوب الشرقي وولايات الجنوب الغربي ونسبة البطالة أخذت في الانتشار بشكل سريع وواسع وهكذا يتفشى الفقر أكثر من أي مرحلة سابقة.. وقدر البنك الدولي نسبة التونسيين المصنفين في خانة الفقر المدقع 3.5 بالمائة.
الأمر لا يقف عند هذه الدول التي تواجه تحديات وتعيش صراعات إنما يمتد إلى دول عربية غنية ففي دول مجلس التعاون الخليجي 35 بالمائة من احتياطي النفط العالمي وتدار 3 تريليون دولار بما يبلغ 37 بالمائة من مجمل أصول صناديق السيادة العالمية.. ففي السعودية 25 بالمائة من السعوديين فقراء “5 مليون” حسب ما جاء على لسان المقرر الخاص للأمم المتحدة فيليب ألستون في مؤتمر صحفي عقده في الرياض حيث أكد أن نسبة كبيرة من المناطق فقيرة، متعجبا كيف يكون هذا في دولة غنية بالنفط.. وتبلغ معدلات الفقر في الإمارات 15 بالمائة من الناس الذين يبغ دخلهم اليومي تحت مستوى 5 دولار “مستوى خط الفقر”.
فلسفة التحكم:
اعتمدت أنظمة الحكم في بلادنا العربية فلسفة متقاربة ” المالك والريع والرعية” في إدارة المال العام رغم اختلاف المخرجات، فلقد كان المال العام ملكا للعائلة أو للعصبة المتحكمة فهو ريع تتصرف به سرا وعلنا كيفما شاءت أما الشعب فهو رعية عليه ان يرضى بما يلقى اليه.. ومن هنا تم إنفاقه بعيدا عن رأي الشعب صاحب الأحقية فيه وأحيانا ضد مصالحه.
وتمثلت هذه الفلسفة في سلوك مستبد قاد الدول الى العجز والشعوب الى الفقر والأشخاص الى الحاجة.. وكان التحالف بين السلطة والمال سمة مرافقة لأنظمة الحكم ليس فقط في المال العام العائد من الثروات الوطنية ولكن أيضا في السيطرة على المال الذي بين أيدي الناس وتوجيهه الى مصلحة الفئة المعنية.
لقد شعر النظام في الدولة العربية أنه المالك لأمر البلاد والعباد وليس الموظف عند الشعب لتحقيق مصالحه.. وهو في ذلك قد حول ممتلكات البلاد الى أوراق بيده لشراء استقراره وبقائه في سدة الحكم والسيطرة على دواليب الدولة.
وحالة العجز والفقر وتردي الأوضاع جملة لا تعود فقط الى عدم استقرار النظام السياسي فهذا الأمر بحد ذاته نتيجة تصارعات في دائرة التملك والتفرد بالرعية والريع.
هيكلية فاشلة:
جربت الأنظمة العربية رؤى مختلفة للتنمية وأحيانا برامج متناقضة على أرضية الرؤية الواحدة.. بعضها اعتمد الملكية الخاصة وإطلاق القطاع الخاص الى أقصى مداه وبعضها قيده في مجالات وأطلق له في مجالات أخرى وهو في الحالين مارس نوعا من السيطرة وفتح الباب لتسرب النظام او بعض أركانه لعقد صفقة توازن او علاقة بينه والقطاع الخاص.. وهذا في ظل غياب قيمة الهيكلية والمؤسسة بأركانها وقوانينها الداخلية.. ووضع هيكلية اقتصادية هلامية تنتهي الى الفشل والعجز لأنه ليس لها علاقة بالعلم والقانون.. فهي لم تقم بناء على دراسات معمقة مستوعبة لاحتياجات الشعب على سلم الأولويات ومستوعبة لإمكانات البلد الطبيعية لتضع خططا متوازنة لبناء نظام اقتصادي يعود بالأمن والاستقرار على الشعب.. فلقد فشل القطاع العام كما فشلت سياسة الانفتاح الاقتصادي لان المسألة في الأساس ليست فقط خيارا سياسيا إنما ينبغي أن تكون رؤية اقتصادية مجتمعية محكومة بقوانين محمية بقوة المتابعة والتنفيذ وخاضعة للمراجعة المستمرة والتطوير وصولا الى الصيغة الأحسن في بناء الهياكل والرؤية.
غياب العدالة الاجتماعية:
اقترنت العدالة الاجتماعية في حس كثير من الناس بالمنهج الاشتراكي فحملت شحنة نافرة لدى القطاعات العامة من شعوب أمتنا لما لذلك المنهج من تجاوز للعلاقة الضرورية بين البعدين الروحي والمادي في النفس والمجتمع المسلمين وتحويل الحياة الى نمطية مادية ميكانيكية.
إلا أن شعوبنا تكتنز في وعيها مرجعيات فاعلة في حسها ووجدانها عندما بلغت الأمة ذروة تمكينها ورقيها الإنساني والحضاري والسياسي في عهد عمر بن عبدالعزيز حيث بلغت على كل المستويات درجة الرفعة التي لم تتكرر وكانت العدالة الاجتماعية تشمل الجميع بكل فئاتهم وفرقهم وشعوبهم وطوائفهم و كانت العدالة منهجا ومؤسسات.. كما كانت النماذج المرجعية العظيمة المتمثلة في ابن الخطاب وابن أبي طالب رضي الله عنهما قدرة فائقة على تحقيق العدالة الاجتماعية وحمايتها.
وعماد العدالة الاجتماعية الأساس يتمثل في كيفية التعامل مع المال العام ومجالات الحياة الاقتصادية وعلاقة المال بالحاكم.. حيث لم يخلط الحاكم بين الحكم والتملك او التقارب مع رجال المال.. ولم يخطر للحاكم لحظة ان المال في نطاق تصرفه لأنه فقط مؤتمن عليه أما صاحب المال فهو الشعب ويجب أن ينصرف إلى مصالح الشعب.
إن غياب العدالة الاجتماعية وإحلال التظالم والطغيان الاجتماعي تسبب بشكل سافر في إنشاء طبقات فقيرة محقورة تزداد فقرا بازدياد غنى الطبقات المتحكمة المبتذلة بالمال في المجتمع و المتنفذة في القرار الإداري والاقتصادي.
حروب الفتن:
لقد أنفقت الإمارات والسعودية وقطر مئات مليارات الدولارات في الحرب على سورية تكون قد قررت إرهاق الدولة السورية وفرض التخلف والجوع عليها، كما فعلت هذه الدول سابقا في الحرب على العراق.. وكما فعلت إزاء السودان وقسمته وجوعت أهله.. لقد قادت هذه الدول الحرب الاقتصادية على الدول العربية المركزية ودعمت المجموعات المسلحة في سورية والعراق وليبيا..
ثم أنفقت مئات المليارات في حرب مفتوحة منذ عدة سنوات ضد اليمن وقامت بتقسيمه وتكريس الاحتراب فيه وشجعت كل مجموعات القتل وذلك لإضعاف البلد وفرض الجوع عليه والفقر ليسهل قياده إلى حيث إنهاء وحدة بلده والقضاء على فرصة توحده.
وتكاد كل مواقع التنازع الدائر الآن في وطننا العربي تشهد حضورا فاعلا لبعض دول الخليج بقيادة الإمارات التي تتحرك بقوة لإسقاط عواصم العرب التاريخية او إلحاقها بمشروعها الاقتصادي العملاق من خلال شراء موانئها ومطاراتها ومشاريع استثمار المواقع الحساسة كما تفعل في مصر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا وأخيرا تتجه نحو فرض حل نهائي في ملف الصحراء الغربية من خلال مشاريع استثمارية فيها متجاوزة عناصر قضية الصراع حول الصحراء الغربية والقرارات الأممية وحكام الإمارات يدركون خطورة الموضوع والى ماذا يدفع هذا التصعيد في محاولة لجر الإقليم كله الى صراع دام يستنزف الدول ويرفع تكلفة التجييش والاستنفار وذلك كله على حساب قوت ورفاهية المواطن.
وفي هذا الإطار تتجه السعودية والإمارات الى فرض حالة استفزاز في الإقليم بل وفي الوطن العربي كله.. وتفتح خزائن أموالها لشراء الأسلحة والمعدات المتطورة بمئات مليارات الدولارات وفي هذا إهدار ضخم ليس من غرض له إلا تفجير المنطقة وتدمير الدول العربية وتزويد المصانع الأمريكية بفرص تشغيل الأيدي العاملة.
الفقر والثورة:
الفقر يولد الانكسار النفسي لدى عموم الشعب فيجعلهم على غير هدى يبحثون عن قوت يومهم وتحقيق الحد الأدنى لسد حاجتهم، وهم في هذه المعركة يؤجلون كل معاركهم الكبيرة من نيل الحرية السياسية والنهضة والتساوي بالأمم والشعوب الراقية والمرفهة.
والخطورة أن هناك من يمارس التفقير سياسة لها أهداف خبيثة لا يكتفي بتسليم الشعب له في الحكم والتسبيح بحمد الحاكم ولي الأمر والسلطان ومعبود الجماهير و الملهم والقائد الفذ الأوحد.. إنما يستخدم التفقير كمن يقف على صنبور مياه والعطشى من الناس يتقطعون عطشا وهو يلوح كالشيطان لهم بقوارير الماء ويزداد ألمهم فتزداد فرصته في إدخالهم الى الإسطبل.. يشير اليهم بالماء داخله فيهرعون بلا تريث ولا تفكير في قذارة الإسطبل.. هم يفكرون فقط بشربة الماء ولقمة الخبز.
مئات الملايين في الهند جوعي حيث ان الجوع هناك هو الكيان الحي الأكبر ومئات الملايين في مصر والمغرب وملايين الشعب الفلسطيني الآن في غزة والضفة والشتات في لبنان وسورية والأردن حيث يواجهون عملية منظمة من التجويع لا يفكرون بثورة ضد جلاديهم و يعجزون عن الصدع بحقوقهم الكبرى.. وهنا يتوقف فعل الشعوب الجائعة المنهكة التي ستكتفي بالبكاء على المسجد الأقصى ونكبة فلسطين والتألم على قتل الأحرار وعلى تخريب عواصمها.
وهنا يطل فعل النخبة المؤمنة بحق الشعوب في تقرير مصيرها و بحقوقها في الحياة بفرض العدالة الاجتماعية وبناء دول تخدم شعبها من خلال إستراتيجية متماسكة لمعالجة الفقر والتصدي للفساد بإنفاذ القانون على الجميع…
الفقر والجوع يبعثان من النفس أسوا ما فيها، ولا يصمد في مواجهتهما إلا أولو العزم مثل جمال حمدان ومالك بن نبي والفضيل الورتلاني وهذا ليس من شأن عامة الناس، التي تنهض عندما تكون قد حققت وفرا غذائيا.. من جديد تبرز أهمية الرواد المخلصين لشعوبهم والحريصين على حقوق امتهم والله غالب على أمره.