ظل جدي يسأل ويستفسر ويحاول معرفة مصير وأخبار أسرته وحال طبريا بعد احتدام المعارك في كامل تراب فلسطين.. وظل يسعى جاهدا كي يسمع الأخبار من المذياع الصغير الذي سلبه منه قائد الجيش الأردني عند تسليمه لمقر شركة البوتاس العالمية شهر سبتمبر 1948م.. واختار جدي التوقيت المناسب ليلتحق بأسرته اللاجئة بعد أن تهدأ الحرب وتضع أوزارها.. وأخيرا وصل جدي (محمد حامد حسن المصري) لبلدة أربد الأردنية بعد رحلة عذاب دامت أكثر من شهر في أواخر شهر سبتمبر 1948م قطع خلالها أكثر من مائتي كيلوا مترا على ظهور الحمير والبغال حتى وصل إربد، وتلك الرحلة كلها تمت تحت حماية رجال قبيلة السوايمة الشرفاء والكرماء والشجعان.. الذين كانت تربطهم به علاقة وطيدة أثناء عمله في شركة البوتاس العالمية عند مصب نهر الأردن وجسر الملك عبد الله سنوات 1932-1948م، حيث كان جدي يشغل منصب رئيس عمال شركة البوتاس العالمية، كما أنه يشغل مختار البلدة ومقدمها والمتحدث باسمها.. وقد مرّ في رحلته تلك بأكثر من عشر بلدات وقرى.. يذكر منها: السويمة ومادبا والسلط والزرقا وعجلون وصولا لإربد.
أصل أجدادي لأمي:
وصل جدي بلدة إربد والتقى بسائر أفراد أسرته وروى لهم جميع ما حدث معه خلال فترة غيابه عنهم.. كما رووا له ما حدث معهم حتى خروجهم واستقرارهم في بيت شيخ البلد. وجدي هذا هو (محمد حامد حسن المصري 1909-1984م) وجده (حسن) هذا مصري قاهري ولد وعاش بحي درب الأتراك خلف الجامع الأزهر سنة 1849م- 1908م، خرج من مصر مهاجرا وطالبا للعمل في خط سكة حديد الحجاز الذي دشنه السلطان (عبد الحميد الثاني 1842-1918م) خرج طالبا للعمل رفقة ابنه الوحيد (حامد 1879-1929م)، وهناك توفي سنة 1908م في مدينة حمص السورية، فيما تزوج ابنه (حامد) من امرأة حمصية اسمها (خضرة) وأنجب منها أحد عشر ولدا وبنتا منهم جدي هذا (محمد 1909-1984م)، وقد توفي كل أشقاء وشقيقات جدي بوباء الجدري الذي اجتاح بلاد الشام إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، ولم يبق حيا سوى جدي (محمد) ووالده (حامد) والبغل الذي انتقل بهم للإقامة عند أهلهم المصريين المستوطنين في بلدة سحم الجولان بالإقليم الجنوبي من درعا الشام ثم إلى فلسطين سنة 1922م، والقصة تكمن في مشاهدة جدي ووالده البغل يتمرغ في الطين الأسود والوحل المريء، فما كان منه إلاّ أن شاهدا صنيع البغل فصنعا ما صنع ونجيا من الموت بوباء الجدري الذي مازالت آثاره وأخاديده الغائرة على وجه جدي.. وهكذا سائر البشر والحيوانات.. وبعد شفائهم انتقلا من حمص ليستقرا عند أبناء عمومتهم في بلدة سحم الجولان بإقليم درعا الشام، وعمل جدي (محمد) هذا بالزراعة والرعي وأُعجب بابنة عمه وأعد العدة للزواج منها وليلة زواجه سرقها منه أحد أبناء عمومته، الأمر الذي دفعه للهجرة نحو فلسطين والإقامة والعمل عند أهل جدتي (يسرى بنت خليل حسن العجلوني المتوفي سنة 1915م) الأثرياء وملاك الأراضي بعجلون والسلط الأردنيتان وطبريا الفلسطينية، فأُعجبوا بسيرته وأخلاقه فزوجوه ابنتهم جدتي (يسرى 1910-1992م) هذه فأنجب منها والدتي (فتحية بنت محمد حامد حسن المصري 1937-حية 2024م) وأحد عشر مولودا من البنين والبنات..
في شركة البوتاس العالمية:
وبعد زواج جدي (محمد) سنة 1931م التحق بالعمل في شركة البوتاس العالمية الإنجليزية سنة 1932م، ونظرا لجديته ومثابرته وخبرته وإتقانه للغتين الإنجليزية والعبرية تم ترقيته ليشغل منصب رئيس عمال شركة البوتاس. وموقع الشركة في الضفة الفلسطينية عند مصب نهر الأردن (الشريعة) عند جسر الملك (عبد الله ت 1955م بن الشريف حسين شريف مكة الخائن والعميل للإنجليز ت 1925م). وقد بنى الإنجليز فيها قرية كبيرة تضم أكثر من خمسمائة عامل، اختاروا جدي رئيسا لهم، وكان يشغل منصب مختار البلدة أيضا، لأن جُل العمال كانوا من أبناء عمومته المصريين فضلا عن غيرهم من سكان بلاد الشام.
وكانت البلدة مقسومة إلى قسمين كبيرين، موقع العمل ومعامل تصفية واستخراج ملح البوتاسيوم ومعالجته ومن ثم تصديره، وموقع كبير ثان يضم مقر سكن العمال والإدارة، وهو مقسوم إلى قسمين، قسم خاص بالعمال العرب ويسكن معهم جدي كل بسكنه الخاص مع أسرته، والقسم الآخر خاص بالإدارة المكونة من المهندسين الإنجليز والتقنيين والخبراء اليهود الذين يحملون الجنسية البريطانية كالمهندس (شمعون) و (إبراهام) و (يعقوب).. الذين مازال يذكرهم لكثرة تعامله معهم وطول مكثهم في الشركة. وشركة البوتاس: قرية مبنية على نمط (الكيبوتزات) الاستيطانية، أبنيتها من الخشب أشبه بمدن (رعاة البقر) بأمريكا.. ويحيط بمقر الشركة أراض زراعية كبيرة ومساحات شاسعة تنتج كافة ما تحتاجه الشركة وعمالها من لحوم ودواجن وأبقار وأغنام وماعز ومنتجات الألبان والأجبان وسائر المزروعات التي تُسقى من مياه نهر الأردن الغزيرة جدا.. وبالتالي تحقق القرية الاكتفاء الذاتي. وهي في حقيقتها (كيبوتز- مستعمرة استيطانية) يعمل فيها العمال العرب القادمين من الدول العربية المجاورة وغالبيتهم كان من المصريين أبناء عمومة جدي.. المطيعين والعاملين والمعدلين بروح الذل والطاعة والهوان الفرعوني منذ آلاف السنين.. وهناك قضى جدي أكثر من عقد ونصف من العمل المستقر الذي كان يدر عليه مكسبا ماليا معتبرا فضلا عن العمل الزراعي الذي كان يقوم به وعمليات التهريب التي كان يشترك فيها مع رجال قبيلة السوايمة الذين كانوا يهربون ما يحتاجونه من سلع من فلسطين.
قرية السويمة وعشيرة السوايمة:
وظل جدي يعمل ويشغل المنصبين رئيس العمال ومختار البلد، ويقوم بأعمال الغراسة والزراعة وتربية المواشي والدواجن وتحقيق الاكتفاء الذاتي للقرية. دون أن يثر اليهود العاملين في الشركة أي حساسية تجاه العمال نظرا لخبث الإنجليز واليهود معا.. وكانت تقابلها عند مصب النهر في البحر الميت عشيرة السوايمة البدوية الساكنة في قرية السويمة.
وكان الكثير من سكان قرية السويمة يعملون في الشركة ويمارسون في الوقت نفسه التهريب بين فلسطين وشرقي الأردن، وارتبطت أثناء فترة تواجد جدي على رأس الشركة علاقات وطيدة معهم، وكانوا نعم العربان الأشداء والكرماء حسب وصف جدي لهم..
وظل جدي مستقرا في عمله من سنة 1932م إلى سنة 1948م تاريخ قيام حرب فلسطين، يقضي عطلته السنوية ببلدة طبرية ويعود لعمله بعد انقضاء العطلة، ويوم أن قامت الحرب حفر جدي أسفل عتبة داره حفرة عميقة في القرية ودس صندوق ماله من القطع الذهبية التي جمعها طيلة رحلة عمله وواراها التراب، وترك علامة تدله عليها إن أمكنه ذلك لاحقا، وبعد أن تضع الحرب أوزارها.. وهو ما حصل بالفعل لاحقا.. وظل ينتظر مصير الأحداث، وفي يوم 10/05/1948م قبيل تاريخ قيام دولة إسرائيل بخمسة أيام جاء طاقم الشركة الإنجليزي واليهودي وطلب من جدي صرف كل العمال مع رواتبهم وعودتهم إلى ديارهم وأوطانهم، ففعل جدي ذلك، وفي اليوم الموالي جاء من تبقى من طاقم الشركة المهندسان اليهوديان (شمعون ويعقوب) وطلبا منه أن يعد لهما إبريق شاي كعادتهما، وجلسا معه بمفرده وأخبراه بأنهما سيغادران الموقع ويرحلان وأوصياه خيرا بنفسه وبالشركة، وقالا له: سنعود يوما يا محمد إلى هذه الأرض ونلتقي.. كما أخبراه بأن الجيش الأردني سيدخل القرية بعد أيام، وكلفاه بأمر الشركة وحراستها والبقاء فيها حتى تسليمها للجيش الأردني حسب الاتفاق.. وركبا في زورق انطلق بهما نحو غواصة كانت مستقرة وسط البحر الميت وركبا فيها، ثم غارت في الماء واختفت، ولا يدري جدي أين ذهبت تلك الغواصة التي كانت ترسو كل يوم مقابل مقر الشركة طيلة سنوات عمله؟
دخول الجيش الأردني قرية البوتاس العالمية:
وظل جدي وحده في القرية ملتزما بحق العهدة الموكلة إليه وخاتم المختار في عهدته وبطاقته المهنية كرئيس عمال شركة البوتاس، حتى مجيء الجيش الأردني لاستلام القرية والشركة.. وفي صباح يوم 15/05/1948م دخل الجيش الأردني من قرية السويمة وعبر جسر الملك عبد الله ووصل مقر الشركة والقرية ولم يجد فيها سوى جدي لوحده الذي عاش أياما لوحده.. ودار بينه وبين قائد الجيش الأردني حوارا بعد أن سلبه مائتي جنيه أردني كانت في جيبه، واستولى على بذلتين في محفظته كان قد جلبهما معه من مصر، وذلك بعد أن شد قميصه ومزقه ونزع منه بذلته التي كان يلبسها ومنحه بذلة عسكرية من غير رتب؟ وبعد أن نزع منه مذياعه الصغير ومن يده ساعته الصفراء التي اقتناها من مصر سنة 1944م يوم أن زار أهله في مصر رفقة أبنائه، ودار بينهما الحوار التالي:
قائد الجيش: ماذا تفعل هنا يا ولد؟ وبالعبارة البدوية الأردنية (قردولو). وهي عبارة تحقير.
يقول جدي: أنا مختار البلد وهذا خاتم المختارية، ورئيس شركة عمال البوتاس العالمية منذ سنة 1932 ليومنا.
قائد الجيش: ماذا تفعل هنا؟
يرد جدي: كي أسلمكم البلد والمصنع بوصية من طاقم الشركة.
قائد الجيش: بعد أن نزع منه ساعته وبذلته ومزق قميصه وفتش محفظته،، هيا انقلع من هنا ولا أريد أن أرى وجهك..
يقول جدي: حاضر، وينصرف من المصنع، ويسير مثقل القدمين، وينظر خلفه بين الفينة والفينة،،
ويجلس تارة لمشاهدة ما يحصل من جيش يفترض فيه جاء محررا لا ناهبا غازيا؟؟
وفجأة يرى الجيش الأردني كيف ينقض على القرية وينهب محتوياتها، وينزل الجنود من الشاحنات ويحملون قطعان البقر والغنم والماعز والدواجن والجرار والخوابي والمؤونة والأكياس وفي حركة سريعة يتم نهب كل ما في المصنع والموقع واقتلاع كل شيء حتى الألواح الخشبية تم قلعها وتحميلها في الشاحنات، وما هي إلا ساعات حتى خلت القرية والمصنع من كل ما يمكن حمله، حتى آلات الاستخراج والمعالجة والتعدين ونحوها سرقت وعُطلت.. وبقيت القواعد الإسمنتية شاهدة على أنه كانت ثمتها قرية أو تجمعا سكانيا.. حتى الملح حُمِّلَ في الشاحنات، وعاد الجيش سيرا على الأقدام يحمل أيضا ما خف حمله وغلا ثمنه، وعبر جسر الملك عبد الله ودخل قرية السويمة.
يروي جدي قائلا: ثم قطعت النهر سباحة لأنه لم يبق لدي شيء يمكن أن يفسد بالماء.. حتى وصلت قرية السويمة عند أصدقائي السوايمة الذين كانوا يعملون معي فأحسنوا وفادتي واستقبالي ومكثت عندهم معززا مكرما ثلاثة أيام ثم اصطحبوني برفقة أربعة رجال وبغلين وسارا بي حتى أوصلوني قرية مادبا ومنها رجع اثنان وبقي معي اثنان اصطحبوني لقرية عجلون التي يقطن فيها أصهاره وأقرباء جدتي الذين بدورهم أوصلوه لبلدة إربد.
من إربد إلى السويمة ثانية:
وصل جدي وفرحت بقدومه الأسرة رجالها ونساؤها، وأكرم شيخ البلد وفادته، وأيامها تباحث رجال الأسرة عما يفعلونه لتقرير مصيرهم، فقر قرارهم على مجموعة من الخيارات، الخيار الأول البقاء في عجلون والسلط حيث يملك خالي حسن وجدتي أراض شاسعة فيهما، غير أن أبناء عمومة جدتي رفضوا بقاء زوج جدتي (زينب مطر) الثاني (محمد يونس المصري ت 1963م)، لأنه مصري ولا يمكنه الاستبقاء إلاّ على الفرع العجلوني أما الفرع المصري فعليه الرحيل، وتقرر أخيرا أن يتم قبولهم جميعا أو اختيار اللجوء نحو الشام كخيار أخير، وهو ما تم بالفعل..
ولأن الرحلة تحتاج للمال، فقد قرر جدي بعد أن هدأت الأمور العودة لقرية السويمة ومنها لقرية الشركة واستخراج صندوق المال والعودة به لتمويل الرحلة ومتطلباتها. وهنا قرر جدي العودة مصطحبا معه والدتي أنيسا له ولنباهتها وشجاعتها وإقدامها.. وجاء يوم العودة للسويمة، واكترى جدي بغلين ودليلا، وسارا ليالي وأياما، يكمنان عند البدو ليلا، ويسيران نهارا، حتى وصلا بعد عشرة أيام عند عشيرة السوايمية أصدقاء جدي، فلما رأوه فرحوا به وبانته (والدتي) وكانت في سن الثانية عشرة والنصف، فأكرموهما وذبحوا لهما وقامت الأفراح بعودة صديقهم محمد وابنته، وسرعان ما طلبوه أن يزوجها لابنة شيخ البلد فاعتذر لصغر سنها.
ثم أخبر جدي أصحابه بالمهمة التي جاء من أجلها، ووعدهم بمنحهم ربع المبلغ، فضجوا بالعتاب واللوم وهم عرب وبدو نشامى، وقرروا السير معه حتى موقع بيته في الشركة، وسار معه أربعة من رجالهم ليلا، بعد أن قطعوا نهر الشريعة سباحة ووصلوا إلى قاعدة البيت الاسمنتية وحفروا معه واستخرجوا الصندوق وحملوه على بغل وأوصلوه القرية سباحة، وظل جدي معهم خمسة عشر يوما في أحاديث وأسمار وأمنيات، إلى أن قرر الرحيل، فرحبوا بالفكرة وأعدوا لها عدتها..
من السويمة لإربد:
انتخب شيخ السوايمية أربعة من الرجال الأشداء من أصدقاء جدي وخصص لهما حصانا وبغلين، وركبت والدتي المغامرة الحصان، فيما وضع الصندوق وبعض المحتويات على البغل الأول مموهة بأنها سلع وحبوب وأغذية وركب جدي البغل الثاني، وسار معه الرجال الأربعة.. حتى أوصلوه إلى بلدة مادبا، ورجع اثنان منهم، واستمر الآخران معه يرافقانه ويحرسانه حتى وصولهم لمدينة مدينة عجلون، وهناك سلماه لمحترفين في تسيير القوافل فأوصلاه إلى بلدة إربد وهو يحمل صندوقه وكنزه الثمين الذي يحوي بالإضافة إلى الليرات الذهبية مجموعة من الكتب والمؤلفات التي كان جدي يملكها، ومن بينها كتاب فتوح الشام للواقدي طبعة 1934م، وقد أهداه لي رحمه الله تعالى.. وهناك قررت الأسرة مغادرة الأردن واللجوء نحو بلاد الشام، واختاروا دمشق ملجأ لهم، وهو ما سنرويه في الحلقة المقبلة عن ليلة النزوح نحو الشام المليئة بالمفاجآت والأحداث..
أ. د. أحمد محمود عيساوي