أقلامالأولى

يوم تصبح الصراحة مشنقة وانتحارا ؟

بقلم : جمال نصرالله

 

قال أحد المقاولين الجزائريين الكبار:

أنا رجل في العقد الستين من عمري .. بلغت من مباهج الدنيا عتيا .. زرت مدنا مشهورة وعرجت على دول أخرى.. جالست ولاة وأعيانا كبارا وتعرفت على أغلب رجال المال والأعمال… حاولت مرارا أن أنسى أياما كنت فيها أرقع حذائي البلاستيكي  بخيط من حديد(سلك)؟ا . لكن للأسف إلا تلك الحالات هي من أبت أن تـُمحى من جلساتي . بل رُسمت كالندبة    على الجلد.وقلت في قرارة  نفسي إن الفقر ليس  عيبا .. بل العيب في من يتناساه ,أو يسحقه بالممحاة من مذكراته.. ويدّعي بأنه ولد فوق مهد من القطن والحرير. ـ بعد سنوات الشباب عشت فيها  كل  أنواع النكد والٍشقاء فتحت مؤسسة لبيع مواد البناء ـ ثم سنة بعد أخرى  توسع نشاطي وصرت قاب قوسين  رجل أعمال كبير بأتم معنى الكلمة . ومع الأيام لم يعد يفصل بيني وبين بارون عملاق إلا المظهر؟ا غير عالم أو مدرك بحجم الأموال التي تصدّقتُ بها ولا حجم المساعدات الإنسانية والمعنوية التي أنقذت بها جيرانا وأحبة من أهل قريتي .. لهذا وذاك ظل الجميع يحبني ويحترمني . بل يقبّلون رأسي على طريقة ملوك المغرب وهذا ما كنت أمقته وأتحاشاه…. لأنني تربيت فقيرا وأحب التواضع والبساطة وهذا من طباعي الباطنية

درسّتُ أبناني في أكبر المعاهد . وأتيت لهم بأساتذة الليل لدعم  وتقوية مداركهم وهذا بطلب منهم . لأني لم أكن أدرك قيمة العلم والتعلم منذ صغري . وأن المعرفة تؤمّن حالا  أو بيتا .

وأخيرا جاءت لحظة الحسم وهي التي  فكرت فيها في خامس الأركان تيمّنا بأمثالي من تجار كبار؟ا أودعت ملفي وبعد مرات تم استدعائي من طرف لجنة الحج بالبلدية . ولحسن حظي فإن القرعة أهلتني للحج ورسّمتني ضمن قائمة الحجاج… لكن بعد صراع  داخلي مع نفسي قررت ألا أذهب  للبقاع المقدسة . متراجعا عن الفكرة تماما .شعورا مني بالذنب..متعاركا مع ذاتي.إلى درجة أنني   لم  أنم ليلة كاملة. نتيجة الحسابات الكثيرة والقلاقل المتضاربة .

صباحا وفي الوقت الذي كانت زغاريد النسوة لكثير من الحجاج (أي جيران القرية) تمخر الشوارع وأبواق السيارات مهلهلة صوب مطار هواري بومدين قصد الإقلاع نحو بيت الله الحرام. وذلك قبل شهر رمضان المعظم …سألتني إحدى بناتي لماذا لا تذهب يا أبي ـ أجبتها ـ بل (أجبتهم )

لن أذهب ..إن مالي مشبوه؟.وأنا أول العارفين بذلك , مشبوه مئة بالمئة وأنا الذي أعرف نفسي دون غيري؟ا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

إلى هنا خُتمت تفاصيل هذه الحادثة الواقعية من لسان هذا المقاول ,والتي كل ما أعجبني فيها هي صراحة المعني أمام أبنائه وجرأته التي جاهر بها في لحظة ضعف كبيرة كانت نتاج وزبدة صراع ومخاض مريرين مع الذات. وذلك حين استفاق  ضميره بأنه لا يرغب في مخادعة الناس ونفسه وربه . بعد أن أدى تقريبا كل الأركان على أكمل وجه. هذا الرجل الثري وكثيرون من أمثاله يمتلئ بهم طول وعرض الوطن . فهل يا ترى أطاح بكل ما كسبه وعمله …يوم صارح وأباح بهذا لفلذات أكباده . وهل هذه المصارحة ستنعكس بالسلب على الأسرة البرجوازية هاته …أي كيف سيتواصل مع أبنائه.وكيف سيواصلون هم يومياتهم بعد أن عرفوا الحقيقة المُرة.. أعجبتني وألهمتني هذه المجازفة يوم سمعتها من  إحدى بناته التي قالت لي(  إن أبي بدا متهورا .. وضعيفا أمامنا .. فكيف سنتواصل معه .. بل كيف نتواصل مع أنفسنا ..؟ا) لقد رفض أن يحج  على الرغم من أنها فرصة العمر كما يقال ولن تتكرر ..بل متى سيحالفه الحظ يا ترى مرة أخرى  كي ترشحه وتنصفه القرعة… إن أبي عاش صراعا مع نفسه.لأنه قال بأن الحج لن يغفر لي  لأنني بعد عودتي سأعود إلى نشاطي وعلاقاتي الاعتيادية داخل المقاولة. وسوف يزورني ممن بقيت أتعامل معهم في شتى الإدارات .وغدا ستتواصل حياتي معهم .وأنا عاجز صراحة عن مقاطعتهم.

وقد يتسائل سائل لماذا أصلا يسجل نفسه في القرعة ما دام يعلم بحقيقة نفسه.أم أنه كان  لا يدرك عجزه حين تحين ساعة الحقيقة.وماذا عن الأركان الأخرى التي كان يؤديها كالصلاة والزكاة والصوم.ـ لماذا الحج فقط ؟ا ـ  لسنا ندري ؟ا ولكن كل ما ندركه أنه كان من المعلوم والمنطقي أن يخلق عذرا آخر بعيدا عن حضور أبنائه.لأنه بهذه الصراحة المكشوفة جر أسرة بكاملها نحو الجحيم.وهذا تهور شنيع لا أول له ولا أخر؟ا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى