
- 17 أكتوبر 1961 : صفحة دامية من تاريخنا المجيد
مجزرة السابع عشر من أكتوبر 1961 واحدة من العديد من جرائم الحرب التي لا تعد ولا تحصى ؛ وكانت هذه الإبادة الجماعية وغيرها من الإبادات الأخرى جرائم مبرمجة في أجندة المشروع الكولونيالي الذي وضع يده على الأرض فاغتصبها ، بوساطة القوة والعنف المسلح منذ بداية الاحتلال .
واستخدم لتحقيق تلك المهمة القذرة مختلف الوسائل غير المشروعة للتوسع والهيمنة . وكان الشعب الجزائري على مدى فترة الإحتلال البغيض هو الضحية ومحل المعاناة التي طال ليلها ؛ وظلت سياسة الاستيطان قائمة على الحقد والكراهية تغذيها العنصرية المتطرفة ، وتدفع بها روح التعصب إلى خيار واحد يتسم بالقسوة والاستبداد ضد الذين أُخْرِجُوا من ديارهم ، وصُودرت منهم أرضهم ومُمتلكاتهم ، وطالهم التنكيل والمطاردة والمداهمات والنفي والأعمال الشاقة ، بَلْهَ التصفيات الجسدية التي استهدفت الساكنة في مختلف ربوع الوطن . وراحت الجريمة الاستدمارية تحصد بدون تمييز رؤوس الكبار والصغار بشكل همجي لَمْ ترقَ إلى ضراوته وتعسفاته أبشع الدكتاتوريات الطاغية التي سجلها تاريخ القمع في أمم العالمين .
ولم يكن تاريخ السابع عشر من أكتوبر 1961 وما تلاه وما سبقه من جور وعدوان إلا عَيِّنَةٌ من الهمجية والغطرسة والتطاولات التي أَلِفَهَا الشعب من صنوف القتل والعدوان ؛ وألوان التقتيل والغدر والانتقام ، بَلْهَ الملاحقات المستمرة التي ليس لها من مبرر سوى حب الغزاة لسفك الدماء الذي تحول عندهم إلى فطرة تسكنهم وتحركهم من الداخل ، وأن الحياة لا تستقيم حسب فهومهم المريضة إلا باستئصال الآخر وإلغائه ، بل إبادته ومحو آثاره حتى لا ينهض بعدها أبدًا ، ذلك هو منظور المشروع الكولونيالي في غزوه الجائر ، وتلك هي عقيدته القائمة على الاغتصاب الذي يلتهم كل شيئ . والويل والثبور لِلْمُعْتَدَى عليه إن حَرَّكَ ساكنًا أَوْ أبدى مقاومة أَوْ أراد أن يتشبث بأرضٍ أَوْ عرضٍ !!!
وقد عرف الشعب الجزائري أثناء محنته وابتلائه الكثير من المذابح ، وتعرض لأنواع القمع المختلفة ، وصَبَرَ وصَابَرَ ؛ ولَمْ يذعن للقوة والبطش ونَاكَرَ مظالم العدوان بالمقاومة والانتفاضات ، وكانت الغطرسة الاستدمارية له بالمرصاد ، ونالت منه بوساطة الإبادات الشاملة والمنظمة ؛ وهي إبادات مسرفة في التنكييل والتصفية ، بالإضافة إلى التهجير والتشريد وتطبيق سياسة الأرض المحروقة ، وكلها طرائق اعتمدت على التطهير العرقي الذي لا يبقي ولا يذر . وعلى الرغم من الفوارق الشاسعة ـ في التنظيم والقوة والعتاد الحربي المتطور ـ بين الجانبين ، إلا أن الشعب الجزائري لَمْ يستسلم ولَمْ ييأس من استرجاع سيادته واسترداد حقه المغتصب ؛ وظلت روح الدفاع تُساكِنُهُ وتُحرِّكهُ وتُقَوِّي من عزيمته للتصدي لكل الاحتمالات وما فيها من بأس وتحديات لا ينهض بها إلا من جعل من واقعه المؤلم ومصيره المحفوف بكل المخاطر ثمنًا لحياة أمته ، وفداء ً لمستقبل وطنه وقيام دولته .
وعلى مدى سنوات ثورة نوفمبر المباركة ، تصاعدت وتيرة المجازر ، وأصبح القصف بالطائرات واستخدام قنابل النابالم بشكل عشوائي ، وما ينجر عن تلك الأعمال الوحشية من تشوهات وعلل مزمنة ؛ بالإضافة إلى مختلف الغازات السامة ، وما تسببه من اختناق قاتل ، وقنابل إنشطارية حارقة ، إن لَمْ تقتل فهي أبشع من القتل ، لأنها مُوَرِّثَةٌ لطائفة من السرطانات والأدواء المعقدة التي ليس لها من دواء . وقد شهدت سماء الجزائر وربوعها المختلفة أثناء الثورة الكثير من تلك المجازر الرهيبة ، والمذابح الوحشية بوساطة القنبلة والقصف الأعمى الذي يُبِيدُ ويحرق وينشر الدمار والخراب . ومن شواهد القصف والتقتيل ما حصل في (( معركة الجرف )) الشهيرة ـ 22 إلى 29 سبتمبر 1955 ـ وفي غيرها من أنحاء الأوراس أثناء حصاره وتمشيط مناطقه في الأشهر الأولى من عمر الثورة . ومن الإبادات الفظيعة ما عرفته الولاية الثالثة وجبال اكفادو من تمشيط وقصف ، وحصار الأماكن التي ازدهرت فيها مظاهر القتل الجماعي ، لإخافة الجزائريين من مواصلة ثورتهم ، وثنيهم عن مساعدتها ودعمها بالمال والفداء . ومن أفظع المجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي بمعية الكولون ، ما سقط من ضحايا في (( ملعب سكيكدة )) عقب هجومات 20 أوت 1955 ، ولا تدانيها في البشاعة والإسراف في القتل إلا مجازر الثامن ماي 1945 في سطيف وقالمة وخراطة ، وبقية القرى والمشاتي والمداشر المجاورة . ومن أشهر الإبادات التي وقعت في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر إبادة قبيلة بأكملها ، وهي قبيلة أولاد رياح بتاريخ 17 جوان 1845 ، حيث حُوصِرَتْ هذه القبيلة التي تجاوز عدد أفرادها الألف في ( غار الفراشيش ) ـ بمعية أنعامها وخيلها وبغالها وحميرها ـ وسُدَّتْ مداخل ومخارج هذا الأخير بالحطب والموانع التي لا تترك مهربًا ولا نجدةً ؛ ثم أمر مجرم الحرب وشيطان البطش إبليس أَوْ ( بيليسييه ) بإضرام النار داخل الغار ، لتواجه قبيلة العوفية مصيرها المحتوم ، وتقضي نحبها بالاختناق والاحتراق في مشهد تراجيدي لَمْ يعرف تاريخ التنكيل والإبادة مثله على الإطلاق . ومجزرة (( الأحد الأسود )) ببسكرة في 26 جويلية 1956 ، التي استهدف فيها المجرمون سوق بسكرة ـ ساحة الحرية حاليا ـ وغيره من الأماكن العامة ؛ وأطلقوا العنان لنيران أسلحتهم الرشاشة في واضحة النهار ، واختلطت جثث الشهداء بجثث المواشي والدواب التي كانت مخصصة لحمل أغراض الناس وبضائعهم ، ومجزرة (( بقالم )) التي كانت واحدة من أعنف المجازر التي وصفت : بالمحرقة أو : (( محرقة ريفي ـ Holocauste Rivet )) وريفي هي : ( مفتاح ) ـ حاليا ـ وكانت تسمى باسم أحد الجنرالات المجرمين ، وقد جرت وقائع تلك المحرقة ليلة 10 إلى 11 من شهر ماي 1956 ؛ وكانت ليلة عيد فطر انقلبت إلى مأساة دامية ، وسقط فيها أكثر من : مائة وخمسين من شباب وكهول الجزائريين ، ولا تكاد جهة من وطننا الوسيع تسلم من ذلك البلاء الذي عَمَّ وطَمَّ ، وطال الجميع بدون استثناء .
ولم تتوقف آلة التقتيل إلا بطرد العدو الغاشم ، ودحره بوساطة المواجهة والتحدي والمجابهات الشرسة المسلحة التي تولت قيادتها ثورة التحرير المظفرة . وكان لرجالات نوفمبر الأشاوس الدور الحاسم في تلقين جيوش الخنازير اللغة التي يفهمونها ؛ وهي لغة المقاومة والكفاح المسلح ، وعدم الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع الذي تَعَوَّدَ المستدمر فرضه بوسائل مكره ، وطرائقه التي اكتسبها بالخبرة والتجريب ، وسلسلة الحروب الظالمة التي تكسرت جميعها على صخرة التصميم والإرادة وثبات الثورة التحريرية ؛ وما عقده رَادَةُ الثورة من عزم على تخليص الجزائر وتحريرها وفك أسارها من قيد تجاوز القرن والربع .
***
ونعود إلى وقائع (( مجزرة باريس )) في السابع عشر من أكتوبر 1961 التي تعتبر من المآسي الأخيرة التي ارتكبها الاحتلال وهو في حالة احتضار ويأس من احتفاظه بالفردوس الزائل ـ (( الجزائر الفرنسية )) ـ بعد أن تبخرت أحلامه وتلاشت معها مشاريعه الاستيطانية التي كان يخطط لها ويبني عليها آمالا عِرَاضًا ؛ وخاصة بعد أن تدفق جنوب الجزائر بالبترول والمواد الأولية ، وارتأى الغاصب المجرم أن الجزائر لا يمكن أن تعود إلى الجزائريين بعد اكتشاف هذا الحجم الهائل من الثروات الكامنة في باطن الأرض من غازٍ ورِكازٍ .
وعلى الرغم من مسار الثورة التحريرية التي راهنت على التحرير الشامل ، إلا أن العدو أصبحت له استراتيجية أخرى تسابق الزمن سياسيا ، وعينه على ثروات الصحراء وأهميتها ، وبسبب هذا الرِّكاز اضطربت حسابات السياسة الفرنسية وتَفَرَّقَتْ بها السبل ، فمن : (( الربع ساعة الأخير )) وأضحوكة : (( القضاء على الثورة الجزائرية )) إلى : (( خطي شال وموريس )) إلى : (( مشروع قسنطينة )) إلى مهزلة : (( سلم الشجعان )) إلى سراب : (( الجزأئر الفرنسية )) ؛ إلى المزيد من شحن الألوف المؤلفة من اللفيف الأجنبي والإستعانة بقوات الحلف الأطلسي ، إلى الانفاق بسخاء لتمويل الحرب في الجزائر حتى أوشكت الخزينة الفرنسية على الإفلاس ، وكاد مآلها أن يستند على ركائز الإنهيار .
جاء السابع عشر من أكتوبر 1961 بعد أن فقدت فرنسا الكثير من أوراقها الخاسرة في مواجهة الثورة الجزائرية الزاحفة بانتصاراتها العسكرية المظفرة في ميادين الوغى وساحات الشرف ؛ بعد أن قرّرت لجنة التنسيق والتنفيذ نقل الحرب إلى التراب الفرنسي ، بل إلى داخل أحياء باريس وشوارعها ، لتذيق الفرنسيين طعم الحرب التي تولى إدارتها التنظيم المحكم لنشطاء فيدرالية جبهة التحرير ؛ هذه الأخيرة التي نجحت في جعل رتابة الحياة الفرنسية تستيقظ على واقع جديد زرع الرعب والفزع في شوارع باريس وغيرها من الأحياء والضواحي والمدن الأخرى ، وبذلك استطاعت الثورة الجزائرية أن تتحدى الاستدمار في عقر داره بهذا النوع من المجابهة والمفاداة ، وتقْلِب في لمح البصر سكينة أمنه وطَمَأْنِينَتِهِ إلى ساحة حرب وتفجيرات لَمْ يعتدها الفرنسيون من قبل .
وكان يوم 25 أوت 1958 بمثابة ثورة شاملة عَمَّتْ ربوع التراب الفرنسي الذي كان هدفا لعمليات دقيقة اتسمت بالتنظيم المحكم والتخطيط الناجح ، والتنفيذ بالغ الدقة الذي أتى على مؤسسات هامة ومحطات استراتيجية في أماكن مختلفة للغاز والبترول والكهرباء ، وتخريبات لخطوط سكة الحديد ، ودوي انفجارات هَزَّ مصانع ونسفَ شركات ، واندلاع حرائق في العديد من الغابات ؛ ومهاجمة ثكنات للجيش ، واستهداف عناصر للشرطة خارج وداخل مقراتهم في باريس ومدن الضواحي والكثير من المواقع التي طالتها مداهمات الفدائيين الجزائريين المنضوين تحت لواء فيدرالية جبهة التحرير الوطني ، وتواصلت تلك العمليات الجريئة على مدى أيام بشكل صارم إلى استكمال آخر الأهداف المبرمجة في الأجندة التي سطرتها القيادة العليا للثورة ـ لجنة التنسيق والتنفيذ ـ . ونتيجة لتلك المناشط الفدائية اعتقلت الشرطة ما يفوق عن : 3000 جزائري سيقوا إلى محتشد ( بوجون ) وأكثر من 2000 معتقل آخر أُرْسِلُوا إلى ( فيل ديف ) . وبقيت فيدرالية جبهة التحرير الوطني تترصد الخونة والعملاء وغلاة الاستدمار لتصفيتهم ؛ واستطاعت أن تصل إلى : ( جاك سوستال ) وحاولت اغتياله إلا أنه نجا من الموت ، وأصيب بجروح ، وكانت ليلة 24 إلى 25 أوت 1958 واحدة من الليالي التي سوف لَنْ تنساها الذاكرة الفرنسية بسبب الثورة الجزائرية التي واجهت فرنسا في عقر دارها ، ونازلتها على أرضها وعلى مرأى من شعبها ومواطنيها ، وكبدتها خسائر فادحة في صميم اقتصادها ، وجعلتها تَتَلَوَّى أَلَمًا من جراء هذا اللون من المصائب التي حَلَّتْ بها وباغتتها من حيث لا تحتسب .
في هذا الجو القاتم ـ الذي أملاه السياق التاريخي ـ طفت على السطح بشكل فجائي قضية الجزائريين في المهجر ، وفي فرنسا تحديدًا ، وأصبحت في هذا الظرف الحساس تُفَسَّرُ كل سلوكات الجزائريين أو مناشطهم على أنها مُتَحَيِّزَةٌ أو مساندة للثورة ، وفي تلك الأثناء المشحونة بالتوتر والتشنجات تَفَتَّحَتْ أكثر أعين المراقبة والحذر ، وراحت تتابع المواقف وتتحسس الانتماءات ، ومع تعاقب الأيام وتسارع الأحداث المتزامنة مع تلك المرحلة أقدمت السلطات الأمنية في باريس وعلى رأسها مجرم الحرب ( موريس بابون ) على فرض حظر التجول الذي استهدف الجزائريين دون سواهم ؛ وبدأ سريان ذلك الحظر الظالم من يوم 05 أكتوبر 1961 من الثامنة والنصف مساءً إلى الخامسة والنصف صباحًا . وهو إجراء تعسفي وتمييزي ، وغير مقبول على الإطلاق في بلد يتشدق ساسته ومسؤولوه بتصدير الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان ، وغير ذلك من الشعارات الزائفة التي يَتِمُّ تسليعها للإستهلاك المجاني ؛ وهي في حقيقتها بضائع فاسدة لم تعد تجدي نفعا في حياة الناس .
وكرد فعل على ذلك الحظر الذي وضع كل الجزائريين في حرج ، وأعاق بشكل فاضح غُدُوَّهُمْ و رَوَاحَهُمْ ، وباقي تحركاتهم الأخرى التي تعتبر من أخص خصوصيات حرياتهم العامة ؛ جاء نداء فيدرالية جبهة التحرير الوطني لكسر ذلك القيد المجحف ، بتنظيم مظاهرة سلمية مساء يوم ( الثلاثاء 17 أكتوبر 1961 ) تقتصر على الرجال فقط ، على أن يخرج النساء في اليوم الموالي : ( الأربعاء 18 أكتوبر … ) ، وبعدها يخرج الرجال والنساء والأطفال في اليوم الثالث : ( الخميس 19 أكتوبر … ) . وتكون بداية المظاهرة أثناء خروج العمال من المؤسسات التي يعملون بها . وكانت نقطة التجمع للانطلاق ( ميدان الأوبرا ) ، واستجاب للنداء حوالي ثلاثين ألف من مختلف الأعمار ، وطَوَّقَ تلك المظاهرة ما لا يقل عن 7000 شرطي و 14000 دركي ، حيث أغلقوا كل منافذ الميترو والمخارج المؤدية لمواقف الحافلات ، وأَحْكَمُوا المغاليق حتى لا يفلت أحد من المصيدة التي سوف تتحول بعد ساعة من الزمن إلى مجزرة دامية يُفْسَحُ فيها المجال لمحترفي القتل ورُوَّادُ الإبادة الذين راحوا يواجهون الْعُزَّلَ والتَّظَاهُرَ السِّلْمِيَ بالقمع والموت الزؤام ، وإطلاق الرصاص بكثافة في كل الاتجاهات لصناعة مشهد رهيب من مشاهد الإبادة المبرمجة ، وتحولت ساحة المظاهرة إلى كَرٍّ و فَرٍّ ومطاردة بالذخيرة الحية التي تصيب الناس ، وتسقطهم قتلى وسط أدخنة الغازات المسيلة للدموع ، والضرب المبرح للمتظاهرين بالهراوات ومؤخرات البنادق ، واعتقال الآلاف واقتيادهم إلى مراكز الشرطة للتحقيق معهم وتصفيتهم هناك ؛ وحتى الذين لم يشاركوا في المظاهرة وكانوا في طريقهم إلى مدن الضواحي تَمَّ إنزالهم من الحافلات وتعرضوا للقمع واقتيدوا إلى المخافر لتعذيبهم وتصفيتهم ، والأبشع من كل هذا الحقد الأعمى الذي طال كل الجزائريين دون سواهم ، هو إلقاء الجم الغفير من ضحايا المجزرة الرهيبة في نهر ( السين ) مِنْ على جسر ( سان ميشال ) وهم مكتوفي الأيدي !!! ، وعلى الرغم من هول المقتلة الفظيعة التي تجاوزت حدود التصفية والانتقام ؛ فقد خرج النساء في اليوم المولي ( يوم 18 أكتوبر … ) يُطالِبنَ بإيقاف المجزرة فورًا ، والتنديد بما حدث وما جَنَتْهُ أيدي البطش والقمع من سفك للدماء وزهق للأرواح . وتعرضت مظاهرة النساء هي الأخرى للضرب والقمع ، وقُوبلت المواجهات الشرسة والعنيفة من طرف عناصر الشرطة الهائجة بوحشية وغطرسة ، ترجمتا عن حقيقة الوجه الآخر للاحتلال الكولونيالي ؛ ونالت مظاهرة النساء حظها من القسوة والانتقام ، وكان منهن القتيلات والجريحات ، فضلا عن الإغماءات الكثيرة لهول الفاجعة التي لَمْ يسلم منها لا الكبير ولا الصغير . وفي تلك الأثناء سقطت الشهيدة (( فاطمة بيدار )) بنت الخمسة عشر ربيعًا ، ورُمِيتْ في قناة ( سان دوي ) كما يؤكد ذلك الأستاذ سعدي بزيان في كتابه : (( جرائم موريس بابون ضد المهاجرين الجزائريين في 17 / 10 / 1961 )) . وكانت نتائج المجزرة كارثية إذ تراوح عدد الشهداء بين : 300 و 400 قتيل ، واعتقال أكثر من 14000 متظاهر في تلك الأمسية الحزينة ، وأزيد من 511 امرأة بمعية أطفالهن في يوم 18 / 10 / 1961 ، وما ينيف عن 2500 جريح ، وترحيل 1500 إلى قراهم في الجزائر ، وأغلب المرحلين كان مصيرهم التصفية الجسدية وأُعْلِنَ عن اختفائهم ؛ فضلا عن 400 مفقود لا يعلم أحد بمصيرهم أو الوجهة التي اقتيدوا نحوها .
مَنْ هو السفاح ( موريس بابون ) ؟
هو مجرم حرب له رصيد حافل بالدماء والضحايا ، وله مسار طويل في القمع والتعذيب ، وتجربة متميزة في العنف والإرهاب والاستبداد . تولى مناصب شتى في الإدارة وتَقَلَّبَ في المسؤوليات العليا والحساسة ؛ وفي مطالع حياته كان من السهل عليه أن يبيع وطنيته وأمته ، ويكون العميل الخائن المتواطئ مع النازية . مَارَسَ ( بابون ) دوره المنوط به في كل المواقع بطريقته الخاصة ؛ كان ميكيافيليا في مناشطه ووظائفه ، لَمْ تكن المناصب التي تولاها هي التي تهمه بقدر ما كان يهمه الدور القذر الذي يؤديه بنجاح من خلال توظيف المنصب لأغراضه المستقبلية ، وبناء مساره الذي عرف كيف يخطط له ، دون ان يقع في المزالق والمطبات . وتُعًدُّ حياته المديدة ـ التي تجاوزت التسعين عامًا ـ واحدة من الظواهر الإجرامية التي فُطِرَتْ على القسوة وتصفية الآخر ؛ وأمام هذا النوع من الظواهر الغريبة ينمحي عنده الجانب الإنساني ، ويبقى جانب الصعلكة الذي تتألف مادته من جماع السخائم والحقد والكيد والكراهية ، والقابلية للمزيد من التقتيل والابتهاج بتصفية الخصوم .
وقد عرفت الجزائر منذ بدايات الغزوة الكولونيالية الكثير من هؤلاء في المجالين العسكري والإداري . وسَجَّلَ تاريخ الاحتلال مئات المجازر والإبادات التي قام بها أمثال ( موريس بابون ) من الدمويين الذين احترفوا صناعة القتل والمحو والاجتثاث ؛ ونذكر منهم : ( بيليسييه ) و ( راندان ) و ( كلوزيل ) و ( سانت آرنو ) و ( بيجو ) و ( أوساريس ) و ( ماسو ) و ( لاكوست ) و ( بيجار ) و ( دوغول ) و ( صالان ) و ( سوستال ) وغير هؤلاء من الملاعين .
وقد عُيِّنَ السفاح ( موريس بابون ) يوم 2 ماي 1956 من طرف ( روبير لاكوست ) في منصب المفتش العام لمنطقة الشرق الجزائري . واختيار ( لاكوست ) لـ : ( بابون ) هو اختيار لسياسة التصعيد والمواجهة والقمع ؛ لأن ( لاكوست ) أدرى باختيار رجاله ، ويعرف أكثر من غيره الماضي الإجرامي لـ : ( بابون ) وما يتوفر عليه رصيده من ضحايا ودماء ، ولذلك استقدمه من المملكة المغربية التي انتدب لها في مهمة خاصة بين سنتي : 1954 ـ 1955 ؛ وبمجرد تعيينه محافظًا لمنطقة الشرق ( قسنطينة ) ، شرع في تنفيذ مخططه الرهيب ضد الجزائريين ، وراح يحث الذين يعملون تحت إمرته على القسوة واستعمال السلاح لمجرد الاشتباه ، وتشديد القبضة على كل الجزائريين ، والالتزام باتباع سياسة التضييق عليهم ، وعدم التفرقة بين هذا وذاك ، فكلهم أعداء ولا يستحق أي منهم الرحمة . وقد عمل مجرم الحرب ( موريس بابون ) في تلك المرحلة على استعداء المستوطنين الأوروبيين على الجزائريين ؛ وجاء بسياسة عنصرية يطبعها التطرف ، وأمر بعسكرة الحياة المدنية ، وحرَّضَ المستوطنين على التسلح ، وتصفية الجزائريين ، وبهذا النهج أطلق الإرهابي (( بابون )) العنان لأعماله الوحشية ، وأعطى الضوء الأخضر لشرطته وزبانيته لارتكاب المجازر وممارسة التعذيب بحرية مطلقة أثناء التحقيق والاستنطاق ، لإخافة الجزائريين ونشر ظاهرة الرعب في أوساطهم ، ودشنت أعماله القمعية عهدًا جديدًا من الإرهاب الاستدماري الشامل ؛ وفتحت طريقته بابًا من أبواب الشدة والفزع لَمْ يسبقه إليهما سابق .
وعلى إثر مجيئ ( دوغول ) إلى السلطة في فاتح جوان 1958 استقدم ( موريس بابون ) وعيَّنَهُ محافظًا لشرطة باريس للقيام بأبشع المهام ، وارتكاب أخس القذارات التي لا يضطلع بها إلا القتلة الذين لا يبشمون من غزارة الدماء وكثرة الضحايا ورائحة الموت التي أصبحت بديلا عن الأكسجين عنده وعند كتائب مرتزقته الذين عاثوا في الحياة والأحياء اجتثاثا وطمسا ومحوا وإسكاتا لأيِّ نبضٍ تنام في طواياه حياة لَمْ يَحِنْ حينها بعد ؛ وراح هذا الْـ : ( بابون ) يعمل على تشيكل شرطة جديدة من ( الحركى ) خاصة بمشروعه الذي يدور في رأسه ، والذي يتوافق مع طريقة تفكيره المتخلِّفة القائمة على المكر والخداع ، والتي تعتمد على الظن والتأويل واستباق الأحداث قبل أن تقع !!! وكانت خطته التي أراد أن ينفذها هي المراهنة على مسح باريس وضواحيها من كل أثر لجبهة التحرير الوطني ؛ بعد أن تَجَذَّرَتْ هذه الأخيرة وأصبحت واحدة من التحديات التي لا يستطيعها أمثال ( بابون ) الذي لا يحلو له العمل إلا في الأوساط التي يمارس فيها القمع والتعذيب بشراهة ؛ لأنه متعطش بطبيعته للدماء . ولتصفية نشطاء فيدرالية جبهة التحرير الوطني جَلَبَ عناصر ( الحركى ) من ( قسنطينة ) و ( الجزائر ) ووَفَّرَ لهم كل الضروريات والمرافق ، وأغراهم بالمال والسلاح ، وجعل منهم عيونا خاصة به ، وكانوا بمثابة الركائز التي تقوم عليها مشاريعه الأمنية . وانزرعت تلك الجيوش من ( الحركى ) في الوسط الباريسي وفي بعض مدن الضواحي وغيرها ؛ واندست بين جموع المهاجرين ، وبدأت عملها بالتخابر والوشاية وتصفية الحسابات بالافتراء والتحرش واستغلال السلطة التي خولها لها مشروع ( بابون ) الظالم ؛ ونتج عن ذلك الوضع البئيس تجاوزات شتى خلفت ضحايا كثر ، ومما سهل من مهمة ( الحركى ) أنهم يفهمون العامية الجزائرية ولغة العمال اليومية ، ورغم ذلك فقد استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تجعل خطة ( بابون ) على المحك ، وتكسر قبضته الحديدية وتتحداه بفضل إيمان عناصر الفيدرالية بعدالة القضية المقدسة للشعب الجزائري . وتمكنت جبهة التحرير الوطني في نهاية المطاف من إسقاط خطط ( بابون ) ومشاريعه الانتقامية ، ولَمْ يستطع هو مسح جبهة التحرير الوطني من فوق التراب الفرنسي كما كان يُراهن ويتبجَّح ، ولَمْ ينجح في تفكيك خلاياها ومتابعة تنظيماتها التي تحتضنها أفئدة المهاجرين .
الموقف الفرنسي والاعتذار :
فرنسا الكولونيالية كعادتها لا تريد الاعتراف بجرائمها الحربية المرتكبة ضد الانسانية ؛ وهي لا تزال تتنصل من ماضيها الأسود الملطخ بالدماء والمدنس بالمجازر العنصرية الجماعية ؛ بل هي ماضية في ضلالها القديم ولا تعنيها أفعالها المثقلة بالفظائع والقتل . والغريب أنها تُصِرُّ على أن ماضيها الاجرامي ضرب من المشروعية التي تدافع عنها ولا ترى في وحشيتها وإبادتها للجنس البشري ما يضيرها أو يحرجها ، ويدفعها إلى مراجعة ما حدث أو تصحيح ما جرى ، والاعتراف بالحقيقة التاريخية وما كان فيها من عدوان وتجاوزات ، وتحمل المسؤولية الكاملة عن كل تلك البشاعات الهمجية وما خلفته من فجائع وأرزاء .
وفرنسا التي سَنَّتْ قانون 23 فيفري 2005 لتمجيد ماضيها الكولونيالي ، وادعت أن استعمارها يطفح بالإيجابيات والحضارة ، وتتبجح في غير خجل أن احتلالها للشعوب قد ساهم في النهوض والارتقاء ، وانتشل تلك الشعوب من طور بائد متخلف وانتقل بها إلى طور جديد يتسم بالحداثة وثقافة العصر ، كما تزعم أُمُّ الاستدمار !!!
ولا شك أن هذا الضرب من التفكير الْمُوَرِّثِ للخبل ، والذي راح يستهزئ بالذاكرة الجزائرية ، ويحتقر تاريخنا ويضحك على واقعنا من خلال المواقف الفرنسية التي تُطالعنا بالهمز واللمز ؛ كلما قلَّبنا صفحات الذاكرة وتأملنا جيدا في المشترك العام المتمثل في الماضي ( التاريخي ) بيننا وبينها ، ولا تفسير للاستهزاء بالذاكرة واحتقار التاريخ والضحك المبرمج على مُطالبتنا بحقوقنا ، سوى أن فرنسا لا تزال تعتبرنا قطعة منها ولا تزال تعتقد في طوايا نفسها بأن وصايتها الكولونيالية لا تزال قائمة وسارية المفعول ؛ وأننا بفضل إيجابيات استدمارها الذي أخرجنا من ظلمات البداوة إلى أنوار حضارتها لا نزال نحيا ، وبفضله يطلع علينا قرن الشمس !!!
وطالما أن عقدة التاريخ ستظل صادمة بسبب دحر فرنسا وإخراجها صاغرة من الجزائر ، وانتصار جيش وجبهة التحرير الوطنيين عليها في الميدانين العسكري والسياسي ، وإنهاء دجلها واستكبارها ، فإن فرنسا الاستعمارية لن تتوب ولن تعتذر ما دامت ترى في استعمارها الآفل إيجابيات تستحق التمجيد والإحتفاء ، وإقامة النصب التذكارية في كل مكان لتخليد بطشها وعنفها وشلالات الدماء التي ظلت تتدفق على مدى قرن واثنتين وثلاثين سنة ، وهي مآثر تستحِقُّ التمجيد ، لأنها رَسَّخَتْ فينا الأمن والسكينة والرفاه !!! ـ حسب المنظور الفرنسي الشاذ ـ .
وتمجيد الإحتلال معناه تبييض الإبادة والاجرام ، وتعريفهما بغير معناهما الذي يَدُلُّ عليهما ؛ وفرنسا تريد مِنَّا أن نطلق كلمة (( الرحمة )) على (( المجزرة )) !!! وحسب هذا الفهم السقيم هو أن نسلك مسلكا آخر في تسمية الأشياء بغير مسمياتها ، ونعيد النظر في كل المصطلحات حتى نستطيع مسايرة المنطق الفرنسي الشاذ الذي غدا يخاطبنا بـ : لغة خاصة ـ Langage specialisée، ومن هنا وجب علينا أن نستيقن أن الذي يُمَجِّدُ استعماره لا يمكن أن يعتذر ويتبرأ منه ، لأنه لو فعل فقد وقع في التناقض ، والجلاد المفطور على الجريمة والإبادة الجماعية لا يعتذر للضحية ؛ ولربما هو الذي يطلب من هذه الأخيرة أن تعتذر له !!! لأنها استفرغت جهوده وقواه ، وبذل لها ما في جعبته من مزايا وإيجابيات ، أثناء ممارسته لساديته التي من حقها ـ حسب عرفهم السقيم ـ التمجيد والاعتراف بالجميل !!!
وإذا نظرنا إلى العلاقة بيننا وبين الْمُمَجِّدِينَ لجرائمهم العنصرية وتَأَمَّلْنَا فيها بِعَيْنٍ مُفَتَّحَةٍ ، فنلاحظ أن إدارة الإليزيه ـ سواء كانت يمينية أَوْ يسارية ـ تريد منا أن نكون آلة استماع لتصدع علينا بإملاءاتها التي تتطلب منا التنفيذ على الفور ، وتطبيق ما استمعنا إليه من إملاءات واستفزازات . وإهانات ( كوشنير ) ليست منا ببعيد ، فقد سبق له أن تطاول على معالي وزير المجاهدين ـ الأسبق ـ معالي المجاهد البطل محمد الشريف عباس الذي يمثل قطاعه ( رمزية ) الجهاد والمجاهدين والأسرة الثورية عامة ، ومَرَّ ذلك التطاول لدواعي واعتبارات أوجبتها أخلاق الجهاد ، ثم أعاد هذا الـ : ( كوشنير ) استفزازه الذي مَسَّ ذاكرتنا الوطنية ، وأهانها بتصريحاته المؤذية التي اعتبرت جيل الثورة هو العقبة في طريق تسوية كل الخلافات ، ونص عبارته الْمُهِينَةِ : (( … ذهاب جيل نوفمبر يجعل مسقبل فرنسا بالجزائر أكثر إشراقا . )) !!! . أ . هـ . وتصريحات وزير الداخلية الأسبق ( كلود غيون ) الذي أعلن من تركيا : (( … أن ملف الذاكرة قد طوي من طرف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته للجزائر نهاية 2007 . )) !!! . أ . هـ . في حين أن فرنسا لم تسكت بعد عن مطالبة تركيا للاعتراف بإبادة الأرمن ، فضلا عن الموقف السلبي وغير المسؤول لسفير فرنسا عند زيارته لسجن ( سركاجي ) سنة : 2011 ، والواقع أن هذا اللون من المنطق المأفون الذي تعكسه إرادة الاستعلاء والاستكبار ، هو الذي يشتغل على بناء العلاقة القائمة على خضوع التابع للمتبوع ؛ والجزائر التي حررها المجاهدون والشهداء لن تكون تابعة لأُمِّ الاستدمار أو لغيرها سواء اعتذر المستكبرون أم عقدوا خناصرهم على عدم الاعتذار.
أحمد بن السائح