حينما قررت أسرتنا العودة إلى أرض الوطن سنة 1975م بعد طول إقامة بدمشق في بلاد الشام لطلب العلم، ولم نكن نملك يومها ثمن تذاكر السفر، حتى لو بعنا كل أثاث بيتنا، وكل ما نملك من غالٍ ونفيس، ولم نكن نملك يومها شيئا غالٍ أو نفيس ليباع، وبعد مشورة وتفكير طويلين توجهتْ والدتي صوب باب السفارة الجزائرية بدمشق واستأذنتْ لمقابلة السفير الجزائري يومها، فأُذن لها بسرعة ودخلتُ معها أنا وأخي الأكبر وكنا في سن الثامنة عشرة تقريبا، واستقبلنا السفير الجزائري بشخصه الكريم المتواضع الرحيم الودود.. استقبالا حارا وفرح بنا، واحتضننا أنا وأخي بحرارة لا مثيل لها، وسعد كثيرا بتفكيرنا العودة إلى بلدنا، وقال لنا: (لا أقول لكم مرحبا بكم في بلدكم، بل أقول لكم بارك الله فيكم لتفكيركم في العودة إلى بلدكم فهو يحتاج إلى أمثالكم)، ونحن مازلنا في ريعان الشباب، وتساءلت يومها بيني وبين نفسي الكثير من التساؤلات لعل أوجهها كان التساؤل الآتي (ماذا تحتاج الجزائر لأمثالي من الصغار، وهي بلد عظيم وكبير وثوري ورائد، وله رصيد ثوري ونضالي طليعي عالمي، وفيه الرجال والقادة العظام والمجاهدين الكبار وعلى رأسهم الراحل الكبير الرئيس هواري بومدين.. واستدركتُ ثانية وقلت في نفسي: فأنا والله الذي أحتاجه وليس هو الذي يحتاجني..)، وفهمت بعد أن نضجتْ تجربتي نوعية الرجال الذين كانوا يديرون الدبلوماسية الجزائرية العظيمة؟ وفهمتُ بعدها بعقود كيف يُعدُّ الكبار الصغار ليفيدوا بلدهم.. وهكذا كان دأب الدولة الجزائرية الرحيمة بأبنائها، ونرجو الله أن يبقى كذلك.
على حساب الدولة الجزائرية
وعدنا السفير يومها بتوفير كل شيء للعودة على حساب الدولة الجزائرية التي تحب أبناءها وهي مسؤولة عنهم أينما كانوا، ومن رغب منهم العودة فهي في خدمتهم، وقال لنا يومها السفير (عثمان سعدي): (ما علينا إلاّ أن نجهز أنفسنا والاستعداد ليوم الرحيل)، وكانت أسرتنا يومها مكونة من عشرة أفراد. ووفى السفير المحترم جدا الأستاذ الدكتور الدبلوماسي المثقف (عثمان سعدي) يحفظه الله ويرعاه رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية بوعده وأرسل لنا التذاكر وأخرج السفير بالسر مبلغا من المال من جيبه ووضعه في يدي وهو يصافحني يكفي أسرتنا لمدة شهر، وحان موعد السفر وامتطينا طائرة جزائرية فارغة تُقل أسرتنا فقط، صوب مطار هواري بومدين بالجزائر العاصمة، وعددتُ يومها أن هذا السلوك الدبلوماسي النبيل من أبرز مظاهر العزة والكرامة التي تتمتع بها الدولة الجزائرية الناشئة، وظللت معتزا بها إلى اليوم، وسأرحل بها معي إلى أعماق التاريخ، وأول ما رأينا يستقبلنا في المطار الشعار العظيم الذي خطه بقلبه وروحه ودمه الشعب الجزائري الثوري بقيادة وبلاغة وحكمة الراحل الفقيد شهيد الغدر الرئيس (هواري بومدين ت 1978م) مكتوبا بخط عريض وبارز يراه الصغير والكبير (الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة)، وسررت يومها أيما سرور لأن أسرتنا كانت ووجدتْ بسبب فلسطين، كما كانت فلسطين حاضرة في حياتنا صباح مساء، لأن والدي ذهب إلى فلسطين مجاهدا صحبة الكثير من المجاهدين الجزائريين سيرا على الأقدام سنة 1948م وُجرح يرحمه الله فيها من رأسه وسال دمه على ثرى قرى فلسطين الشمالية السليبة في سهل الحولة (صفد) و (سمخ) و(طبريا)، واستشهد بجواره النقيب أنور القدسي قائد فوج المغاربة المغاوير، واحتمله واحتضنه والدي بين يديه وهو يرحل عن دنيا الخيانة والخضوع والانبطاح العربي الفانية، المتمرغين بفضلات غبار ثقافة الهزيمة التي يشيعها اليهود الغاصبين منذ عقود.. وهو يوصيهم بفلسطين، ويقول لوالدي: (يا محمود: فلسطين أمانة في أعناقكم أنتم أيها الجزائريون دون سواكم).
أجيال الخير والفضيلة
ظلت هذه الكلمة يرددها والدي طيلة حياته، ويقول لي: كيف أوفيها حقها يا بني وقد بلغت من الكبر عتيا؟ فأُهوِّنُ عليه ثقلها وأقول له لا تحزن ولا تخف فأجيال الخير والفضيلة والعزة والشموخ والجهاد في سبيل الله ضد اليهود الغاصبين في ازدياد وبركة إلى يوم القيامة. وها هي قوافل الإغاثة والعمل الخيري والإنساني التي تسيرها الأحزاب والحركات والجمعيات الجزائرية كجمعية العلماء المسلمين الجزائريين صوب قطاع غزة المحاصر من بقايا الروح والخير والبركة في هذه الأمة.
ونزلنا بلدنا فرحين مسرورين بهذا الشعار واستقبلنا والدي الأمي -بسبب حرمانه من التعليم في ظل قهر المستعمر الفرنسي صاحب شعارات الكذب والنفاق (حرية، مساواة، أخوة) له وللأجيال الجزائرية من سنة 1830م إلى سنة 1962م- في المطار وسألنا عن هذا الشعار المكتوب بالخط العريض في مطار هواري بومدين فقلنا له إن فحواه (الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة) ففرح فرحا لا مثيل له لأنه فهم معناه ومقصده ومكانه في المطار، وهو يقول لنا: نحن نسمعه دائما من خطابات الرئيس هواري بومدين حتى حفظناه عن ظهر قلب..
معززين مكرمين محترمين
حللنا ببلدنا معززين مكرمين محترمين منذ سنة 1975م وعشنا على صدى وصوت ورنات وأناشيد وخطابات ومشاريع وخطط الدولة الجزائرية بقيادة حزب جبهة التحرير الوطني الثوري يومها في ظل الراحلين العظام (محمد الشريف مساعدية، بوعلام بن حمودة، عبد الحميد مهري..)، وتحت قيادة مجلس الثورة بقيادة الرئيس الراحل (هواري بومدين) بهامته الوطنية المتميزة، فأحببنا كل شيء جميل وعظيم وكبير.. فيها حبنا وعشقنا لفلسطين. وانخرطنا وشاركنا في عجلة الوعي الوطني والثوري الجزائري المحلي والإقليمي والعالمي، وهنفنا وتجمعنا وحيينا ووقفنا الساعات الطوال في انتظار المواكب الرسمية ونحن نحمل الشعارات واللافتات الكبرى، ومن بينها اللافتة الثورية الكبيرة (الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة).. وفخرنا –ومازلنا- بالجزائر التي تقف مع قضايا الشعوب المكافحة في سبيل نيل حريتها وحقها في تقرير مصيرها.. واعتززنا –ومازلنا- نعتز بالدبلوماسية الجزائرية القائمة على الثوابت العظيمة في احترام سيادة الشعوب وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفي نبذ العدوان أياًّ كان مصدر ونوعه.
واختلطتْ الأوراق
ولكن للأسف الشديد سارت الأمور على غير ما كنا نتوقع ونتمنى ونريد من تأييد القضايا العادلة في العالم، واختلطتْ الأوراق في العالم العربي والإسلامي بفعل المؤامرات الامبريالية الخارجية، والتي وجدتْ -تلك الخطط والمؤامرات الامبريالية الماكرة- منا استجابة وشجعناها بغبائنا وجهلنا وبعجزنا وفشلنا وتخريبنا لبيوتنا ومدننا ومصانعنا ومؤسساتنا وهيآتنا ومنشآتنا ووسائل إنتاجنا بأيدينا بغيابنا وتقاعسنا وإفسادنا لاقتصادنا ومواردنا وثرواتنا وبدأنا ندخل تدريجيا في دوامة الأزمات.. وفي هذا السياق التقديري يجدر بنا الخلوص إلى أعماقنا وتاريخينا لنصارح أنفسنا ونقول: نحن كلنا مسؤولون عن نجاح ثقافة الهزيمة والذل والهزيمة والكساد والفساد والتخلف والتخريب.. المبثوثة في ثنايا أدبياتنا السياسية والفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية والإدارية والأخلاقية، التي شجعتْ مشاريع الكيد والاستكبار العالمي للنيل منا ومن فلسطين ومن قضايا الشعوب المضطهدة العادلة، والتي صرنا اليوم عاجزين عن التصريح بتأييدها لضعفنا وتخلفنا الاقتصادي والمالي والتكنولوجي والاجتماعي والعلمي..
ضُرب مقومات النهضة الجزائرية
وللأسف الشديد فقد ضُربتْ مقومات النهضة الجزائرية الحديثة، وقُوِّضَ اقتصادها، وجفت مواردها، ورحل رئيسها الشهيد المغدور (هواري بومدين ت 1978م) في ظروف غامضة، واستهدفتْ الجزائر كقوة طليعية للقوى الثورية في العالمين العربي والإسلامي وفي العالم الثالث، وخُرِّبَ اقتصادها القائم على المحروقات، ودخلتْ في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعد حوادث 1986م و1988م، ونُصب لها شراك الفتنة الداخلية بعد دستور 23/02/1989م والتعددية السياسية والحزبية، التي قام بها دعاة الفتنة والقتل، وفقهاء السوء والإعاقة والتآمر، وعلماء السلفية السطحيين الظاهريين المتخلفين، والمقتفين خطى وفيروسات وأمراض قرون التخلف والضعف البالية.. وقام أولئك المأجورون بالإجهاز على مساجدها وعلمائها وشبابها وخطابها الديني الهادىء والسلمي والرصين.. وأفتوا وعلموا ووعظوا وأرشدوا وفي أيديهم المدى والسيوف والدماء تتقاطر منها، وحاولوا إسقاط الدولة الجزائرية في العشرية السوداء بفتاوى الفتنة والإجرام والحرابة..
لملمة الأحمال و تضميد الجراح
وتبعا لهذه الفتنة العمياء انكفأتْ الجزائر على لملمة أحمالها، وعلى تضميد جراحاتها التي أثخنها فيها أبناؤها بفعل ذلك الخطاب السلفي المأجور،.. الذي لم يكن له سوى هدف واحد وهو إسقاط هذا البلد الثوري المؤيد للشعوب المستضعفة في العالم، والصامد في خندق واحد مع الشعب الفلسطيني، وتبعا لذلك اختفتْ وتوارت تلك السياسة، وغابت تلك الشعارات والاحتفالات والمهرجانات والمسيرات المؤيدة والحاشدة لفلسطين، ولم نعد نسمع بذكرى الـ 15/05/1948م ذكرى قيام الكيان اليهودي واغتصاب فلسطين، ولا بذكرى الـ 05/06/1967م ذكرى هزيمة حرب الأيام الست وسقوط الجولان والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء، ولا بذكرى الفاتح من جانفي 1965م ذكرى تأسيس حركة فتح، ولا بذكرى حرق المسجد الأقصى يوم 29/08/1969م، ولا بذكرى يوم الأرض في 31/03/1976م، وبدأت فلسطين تختفي وراء ستار ثقافة الهزيمة التي بدأت تُسوِّقُ لها الأبواق اليهودية العالمية، ولاسيما بعد اتفاقية كامب ديفيد 1979م، وتصريح جنيف يوم 25/05/1988م، إلى أن وصلت لاتفاقية مدريد سنة 1992م تاريخ مرور خمسة قرون على سقوط غرناطة سنة 1492م، ثم اتفاقيات أوسلو 1993م.. وانسلال الكثير من البلاد العربية والإسلامية من تأييد ونصرة فلسطين ثم الجامعة العربية.. إلى أن صارت قضية فلسطين تعني الفلسطينيين لوحدهم..
أين هي الجزائر؟
وصرنا نتساءل أين هي الجزائر التي شارك جيشها في حرب 1967م وحرب الاستنزاف 1968-1972م وحرب أكتوبر 1973م؟ وأين هي الجزائر التي أوقفت شلال الدماء في أيلول الأسود في سبتمبر 1970م؟ وأين هي الجزائر التي اشترت السلاح للعالم العربي ليخوض حرب رمضان أكتوبر 1973م؟ وأين هي جزائر منظمة الأوبيك وحظر البترول؟ وأين هي الجزائر التي آوت الفلسطينيين ورحبتْ بهم واستقبلتهم بعد معارك اجتياح الجنوب اللبناني 1978م؟ وأين هي الجزائر التي استقبلت الفلسطينيين بعد سقوط بيروت سنة 1982م وسقوط مخيمات الشمال اللبناني سنة 1983م؟ وأين هي الجزائر التي احتضنت قيام الحكومة الفلسطينية المؤقتة سنة 1988م؟ وأين هو صوت فلسطين في الإذاعة الجزائرية؟.. وغيرها من الأسئلة؟؟
ختاما
أتعلمون أيها القراء الأعزاء أين وجدتُ شعار (الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة) المختفي أخيرا؟ والله لقد جدته في بلدة (العقلة) عاصمة جبال معركة الجرف 22/09/1955م عند عشيرتي من أولاد العيساوي، التي تبعد عن الجزائر العاصمة سبعمائة كيلو متر.. وقد كتبت بخط كبير ومميز وبالألوان الجزائرية والفلسطينية في وسط البلدة خلال زيارتي لها يوم الثلاثاء 27/03/2018م، وعدت سنة 2022م فوجدت آثاره باقية.. فانظروا كيف تدحرجت القيم خلال ثلاثين سنة مسافة سبعمائة كيلو متر، فبعد أن كان شعارا جزائريا رسميا وشعبيا يستقبل كل من ينزل مطار هواري بومدين، صار شعارا لقبيلة أولاد العيساوي بالعقلة، فاستبشروا ولا تحزنوا فإن أولئك الناس المؤمنون الطيبون الثوريون الشرفاء.. هم محاضن الثورات والقيم، وليس غريبا أن يحتضنوا فلسطين كما احتضنوا معركة الجرف العظيمة. وإلى الله المشتكى..
أ. د. أحمد محمود عيساوي