
ذكرنا في مقال سابق أن الحراك الشعبي الذي ولد وترعرع في بيئة وثقافة الرفض التي ميزت المجتمع لعدة قرون كان يعي جيدا ما لا يريد أكثر مما يدرك ما يريد بالتحديد بدل ما يرفض. ومن الطبيعي لجميع الحركات المناوئة في العالم أن يثيرها رفض الوضع أكثر مما يثيرها التفكير في بناء وضع جديد فذلك أمر يخص النخب المفكرة والصفوة السياسية، ناهيك عن أن عملية البناء أفعال وليست انفعالات. فإذا كان من حق المجتمع الجزائري أن يرفض السياسات والمنظومات والأشخاص فهل من واجبه أن يبحث عن البدائل المناسبة في أسرع وقت؟
يتنحاو قاع
لذا، فمنذ بدء الحراك الشعبي صار إحصاء ما لا يريده هذا الحراك أكثر يسرا وسهولة من تبيان ما يريده فقد انطلق من رفض العهدة الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة قبل أن يصدر حكما شاملا تحت عنوان “يتنحاو قاع” هدفه اقتلاع جميع رموز النظام سواء تلك التي شكلها بوتفليقة بنفسه أو تلك التي وجدها في طريقه فسارت في قطاره أو حتى تلك التي اضطرها للنزول في محطة من المحطات طيلة عقدين كاملين. فقد أصدر حكما شاملا بالرفض والعزل أرعب الجميع ووضع مئات الإطارات في السياسة والإدارة والاقتصاد في حالة تأهب قصوى إلى حد أن جميع من شارك من قريب أو بعيد في بناء الصرح البوتفليقي من أفراد ومنظمات وأحزاب صار متهما محتملا بالفساد ومرشحا ليجد نفسه في السجن أو على هامش التاريخ.
ولم تتوقف جبهة الرفض عند هذا الحد فقد عبر الحراك عن ومقاطعة سياسية واسعة لأي مخرجات سياسية جديدة تصدر عن بقايا عهد الرئيس السابق وأن تتولى مرحلة ما بعد رحيله قيادات سياسية وعسكرية وتقنوقراطية رافقته وكانت سندا له إلى آخر لحظة من فترة حكمه. ومن هنا جاء رفض الباءات الثلاثة لينال شبه إجماع لدى أهل الحراك، يضاف إليه رفض الحكومة والبرلمان بينما اختلف القوم في قبول أو رفض أن تتولى قيادة الجيش وعلى رأسها الراحل قايد صالح زمام “مرافقة” المرحلة الانتقالية إلى غاية تنظيم انتخابات رئاسية جديدة.
لقد أظهر الحراك بموقفه الرافض أنه انتزع الثقة من الجميع، بما فيه الأحزاب السياسية التي ظل ينظر إليها بأنها كانت إحدى عوامل إطالة عهد بوتفليقة عندما قبلت بالتعامل التكتيكي معه لتغطية عجزها عن التعبئة الشعبية. كانت الأحزاب متهمة بالخضوع لنظام الريع والكوطة في البرلمان والمجالس المحلية وأنها رضيت بالتزوير الذي يمنح لها “حقها” فهي لا تختلف عن الأحزاب التي جهرت بموالاتها للسلطة مثل حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحزب تاج وحركة بن يونس ومن قبل حركة مجتمع السلم وحركة النهضة وغيرها والتي اضطرها الحراك أحيانا للاختباء حتى تهدأ العاصفة أو أن تصطف في مواقع الضحايا أحيانا أخرى. وإذا كانت انتفاضة أكتوبر 1988 تعبيرا عن رفض الأحادية الحزبية فإن حراك فبراير 2019 رفَض المنظومة السياسية القائمة بأكملها بعد أن اعتبرها منظومة أحادية في ثوب تعددي من حيث أنها ولدت ممارسات لا تختلف كثيرا عن تلك رفضتها انتفاضة أكتوبر.
ومن جانب آخر شمل رفض الحراك جميع الآليات المطروحة للخروج من الأزمة، لاسيما تلك التي تشارك في تسييرها المنظومة السياسية القائمة من سلطة وأحزاب ومنظمات موروثة دون أن يكون له تصور واضح عن الآليات البديلة ما عدا بعض الاقتراحات التي كانت تصب في اتجاه فتح “مرحلة انتقالية بأوجه جديدة” وإنشاء مجلس تأسيسي لبلورة دستور ونظام جديدين. غير أن ما كان يهم الحراك بالدرجة الأولى هو رفض الانتخابات التي يقترحها أو يشارك فيها بقايا النظام، فقد ورفض في طريقها لجنة الحوار التي ترأسها كريم يونس بل ذهب إلى حد منع جميع من شارك فيها من العودة إلى مسيرات الشارع بعد انسحابه المبكر منها كما حدث لاسماعيل لالماس كما عبر عن عدم ثقته في سلطة تنظيم الانتخابات التي يترأسها محمد شرفي. وهكذا سقطت انتخابات 4 جويلية بفعل “تواطؤ” بين الرفض الراديكالي لها من قبل الحراك وانعدام رغبة قوية لدى السلطة في إجرائها لغياب تصور جاهز للبدائل لديها، والذي لم يتوفر إلا في الأشهر الأخيرة من السنة الفارطة فكانت انتخابات 12 ديسمبر التي عرفت عزوفا واسعا عن المشاركة فيها لاسيما في المدن التي كانت ساحات مفتوحة للحراك انطلاقا من موقف الرفض الذي كان العنوان الذي لازم الحراك ولا يزال.
ويستمر الرفض
ويستمر الحراك في مسار الرفض الشامل لرموز السلطة ومخرجاتها السياسية انطلاقا من اعتبار ما ينتج من سلطة غير شرعية فهو غير شرعي بالضرورة ولو كانت سياسته من أجمل السياسات، وها هو يرفض الحوار ويشجب المشاركة فيه ويرفض استخراج الغاز الصخري وسيرفض الدستور الجديد وكل ما ينتج عن سلطة الرئيس تبون ما لم يصل إلى مبتغاه وهو ذهاب النظام بكل رموزه وتحرير معتقلي الحراك واستمرار العدالة في متابعة ومحاسبة المفسدين.
هذا هو الحراك الذي يدرك ما لا يريد أكثر مما يعرف ما يريد ومن هنا وجب على النخبة غير المتورطة مع المنظومة المرفوضة التفكير حول مشروع مجتمع جامع ومنظومة سياسية متينة فالحراك مجاله ومهمته الرفض ليس إلا.
بقلم: احسن خلاص