بقلم: الوليد فرج
يفتقر المجال التداولي النظري ، لدراسات تتناول موضوعات أساسية ، بنضج موضوعي ، وعمق تأصيلي ، يعدم التعامل الإيديولوجي المسبق ، بتحرره من سيطرة المفكر فيه ، لا سيما في المسألة الدينية ، التي تسعى في الغالب إلى البحث عن كيفيات تكييف و تمهية الجانب الدنيوي ، مع النص الديني ، بحثا عن خلق وضع يتحاقل فيه الواقع مع أثار تاريخانية النصوص ، خاصة على مستوى التحديات التاريخية الكبرى .
من المستعصي الوقوف على مقبض نقدي ، داخل مقال الأستاذ بوكروح ، لما اتسم به من تمشي تاريخي وصفي مستعجل ، مفتقر لعقلانية سوق الحجاج ، واقع تحت ضغط توتر معرفي ، وقلق وجودي ، مما اثر على النضج الموضوعي و المنهجي للمقال ، مما سهل وسمه بالتبسيط الواشي بالسطحية العقيمة الغير منتجة في التناول الفكري للموضوعات المركزية ، كالتي تناولها .
كنت آمل أن يكون المقال فتيل يشعله الأستاذ بوكروح ، لنشوب تدافع فكري ، بين التيارات الفكرية ، نتناسى به نكبة العقل ، وحالة الطوارئ الفكرية التي طالت ، ولا أظن أنها سوف تنجلي قريبا ، لا سيما بعد سماعنا لطلقات جعجعات فارغة ، أطلقها أبوجرة على جثة المقال البوكريحي .
لا أريد أن أسهب القول ، في هذا الوضع الفكري للمدرج الأول لجدل البدايات بين المقدس و المدنس و أجدني أنزاح إلى مرجعيات و خلفيات بوكروح و أبوجرة والتي أكاد اجزم أنها لا تخرج عن سياقات الجدل السياسي الفكري الذي نشب بين علال الفاسي و المفكر عبدالله العروي الذي اندفع إلى استحضاره في حوار الآن ، مؤجلا طرح أفكار علال الفاسي إلى أجل لن أسميه .
تسييس الدين :
الوسط : من القضايا المركزية التي نشب الخلاف الفكري حولها هي مسألة الحاكمية ، والتي اتخذت شعارات عدة منها (الإسلام دين و دولة) . كيف يرى مفكرنا هذا الشعار؟ وماهي ظروف نشأته ؟
المفكر العروي : عبارة (الإسلام دين و دولة) نشأت مع الحركية الإسلامية السياسة في القرن 19 ، مع بدايات بروز الفكر العلماني ، الرامي الى تحرير الدولة من التزاماتها نحو الدين ، فهي ردة فعل ، لفعل خارجي عنها ، وليست دعوة متأصلة. ولدت من عمق المنظومة الفكرية إسلامية .
الوسط : ظاهرة تسييس الدين ، و محاولات تبني خطاب سياسي ديني عقلاني تعتبر من سمات الإسلام السياسي حاليا .. كيف يرى الدكتور العروي ذلك ؟
المفكر العروي : إن هذا السؤال في محله و يرجعنا إلى المرجعيات الفكرية الفقهية التي اتخذتها التيارات السياسية كدعامات لها واقصد هنا : محمد عبده و رشيد رضا و الكواكبي و علال الفاسي وغيرهم لكن هذا لم يقي تهافت مقولة تسييس الدين ، حيث نجدهم في المرحلة الأولى قبلوا بالإصلاح تحت شرط احترام السلطان للشرع ، و توافقوا مع الليبرالية وأسهبوا في الكلام حول العدل بأقرانه مع مفهوم الشرع مقتصرين على أن النهضة أساسها العدل ، وفي المرحلة الثانية عندما تحقق الخطر وصار واقعا معيشا ، عندما آلت زمام الأمور للغرب نلاحظ تراجع الخطاب المفعم بقواعد الشرع ، مما أدى إلى التغاير بين الفقهاء و الليبراليين ، واقتصار خطابهم على جعل الشريعة كمصدر للقوانين .
الوسط : تناولتم فكرة المجتمع المدني في (ديوان السياسة) ودوره في الانتقال الحضاري هل يمكن أن تبسط للقراء الوسط ذلك ؟
المفكر العروي : إن نشاط و حركية المجتمع المدني بكل مكوناته أحد آليات الانتقال الحضاري الشامل ، في كل مناحي الحياة وعلى رأسها أنماط التفكير ، بعيدا عن الخطاب الديني الذي لا يصلح أن يصاحب السياسة ، في عملية الإصلاح باعتباره رديف لمشاعر نفسية و اجتماعية مثل التوكل و الإتباع و الطاعة و المبايعة …
الوسط : ارتكاز الخطاب الديني على النص المقدس القطعي ، ألا يعتبر احتكارا للحقيقة إقصاء الآخر ؟
المفكرالعروي : إن الاستغلال الفج للنصوص الدينية ، لغرض تشكيل وعي شعبي الغائب أصلا عن الوعي هو أيضا تلويث للدين بالسياسة ، وقلت في كتابي (السنة و الإصلاح) أن هو مجرد تمثل السياسي بشخص النبي هو مس فاضح بكرامة النبي ، فقد جزمت السنة إن عدالة البشر ليست كعدل الله ، فلا يجب بالمقابل أن نجعل من العدالة البشرية عدلا إلهيا .
لذا لعبت التأويلات السياسية للنص الديني دور المُحنِّط للإسلام و أسره في أوضاع جامدة ، لذا واجب علينا إنقاذا للعلم و السياسة لا من الدين بل من التأويل الذي فرضته السنة من خلال القراءات الإسلامية الحركية .التي صرفت الإسلام عن وجهته الحقيقية وفتح الباب أمام المفاهيم المتطرفة للدين و السياسة معا .
الوسط : مفكرنا دعني أسرد عليك حكما عاما لأحدهم ، حين قال : (إن العروي نقد كل ما حوله من خطابات ، لأنه فقد إيمانه بالنخبة المثقفة و قدرتها على عقلنة المجتمع العربي بكيفية شاملة و مسترسلة و بالتالي فإن المثقف الذي يتشكل بتأثير خارجي ، اقض مضجعه بمزاجه العكر و تقلباته المستمرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) ، مع العلم أن أقر بتأثره بفكركم. ومنهجهكم في بداياته
المفكر العروي : هذا قول لصديقي هشام جعيط الذي اشتقت له ، مفكرا و إنسانا . وأقول له مازلت لم أصل للجذور التي نبشت عنها أنت في وجدان البشرية . (يقوله وهو يرسم ابتسامة) .
يبقى المفكر عبدالله العروي واحد من أهم المفكرين العرب الذي نجحوا في هندسة مشاريع نقدية متكالمة ، رغم سقوطه في بعض التناقضات قد يكون قربه من القصر الملكي سببا لها ، لا سيما عندما حاول تحديد علاقة الملك بالحركات الإسلامية التي شدد في وجوب اتصافها (الضبط و القمع و القهر السياسي و الإقصاء الممنهج باعتبار أن دور الملكية الدستورية هو حماية الحداثة ضد القوى التقليدية و المحافظة) فعلى الملك كما يقول : (أن يهتم بالأسئلة الدينية لتفادي استئثار شخص آخر بها ، أن الملك هو المؤهل الوحيد لحل المسائل الدينية وتلك التي يمكن أن تنشأ من الهيكلة الجهوية الجديدة)
و صنع بذلك العروي كهنوتا جديدا باسم الملكية الدستورية و تردى إلى العصر القروسطي .